قيس قاسم
يدور سؤال الملف حول السينما العربية وهذا وحده بحاجة إلى تدقيق قبل الخوض في متغيّراتها، والحاصل فيها من تجديد أو تشخيص، لدوام ثبوتها على الحالة التي كانتها منذ عقود، لأنّ صفة "العربية" في الأصل صفة جامعة، بينما الواقع يشير إلى وجود سينمات دول عربية منفردة، لكلّ واحدة منها خصوصياتها، وكلّ منها تُعبّر عن حالة تطوّر البلد الذي تنتمي إليه، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. هذا طبعاً إذا توافق المعنيّون بدراساتها على صحّة توصيفها بـ"سينما" أساساً، لأنّ أغلبية الدول العربية، عملياً، تُنتج أفلاماً، من دون أن تُؤسّس فيها صناعة سينمائية.
من هذا التوصيف يستثني هؤلاء، عادة، دولة مصر، باعتبارها الوحيدة التي تتوفّر تاريخياً على صناعة سينمائية. هذا يدفع الباحث إلى معاينة مساحة متفاوتة من المستويات يصعب حصرها في نهاية كلّ عام. ومع هذا، يُمكنه تشخيص اللافت والجدير للانتباه في المشهد السينمائي، المُتغيّر وفق المُتغيّرات الحاصلة في كلّ بلدٍ على حدة.
مؤكّدٌ أنّ منطقتنا العربية من بين أكثر مناطق العالم اضطراباً وتحوّلاً، سياسياً واجتماعياً. هذا بالضرورة يؤثّر على الحالة الثقافية والإبداعية لكلّ بلد. المشهد السينمائي اللبناني مثلٌ على ذلك: انحسار إنتاجه السينمائي في العام الفائت تعود أسبابه إلى ما يشهده من اضطرابات دراماتيكية، تؤجِّل المنجز السينمائي قليلاً، لكنّها لا توقفه نهائياً. هذا يُلاحَظ أيضاً في المرحلة التي أعقبت الحرب الأهلية، الذي يُعبّر عن مكنوناتها، ولو بعد حين، وثائقيّ فرح قاسم "نحن في الداخل" (2024)، المهموم بحالة إنسانية لا فكاك لها من المتغيّرات السياسية والاقتصادية الحاصلة في البلد. قريبٌ منه "مثل قصص الحب" (2024) لميريام الحاج، القارئة فيه مرحلة طويلة من تاريخ لبنان، بزمن سينمائي مُكثّف ومشحون بالتعبير عن رغبات التغيير وخيباته.
تظلّ النظرة الأبعد للمُنجز السينمائي اللبناني، في ربع القرن الأخير، شاخصة على تطوّر في مستويات الصنعة، كتابة واشتغالاً جمالياً. هنا، ربما يكون مناسباً تشخيص تطوّره بكلمة "الثابت"، المتوافقة مع بساطة الإمكانيات الإنتاجية للبنان وديناميكياتها الفاعلة والمُعبّرة، في الوقت نفسه، عن دوام بحث صنّاعها لتقديم أفلامٍ جيدة، مُتفاوتة بالتأكيد في مستويات تعبيراتها السردية والجمالية عن ذواتهم ومواقفهم مما يجري لهم وحولهم، لكنّها تنشد بحرص البقاء في مساحة التميّز، ولا ترضى بالرديء. حالة لبنانية خاصة تُقارب سمات الإنتاج السينمائي لدول البلقان، الذي يُمكن إسقاط مواصفاته اليوم على السينما المغاربية، ولو بدرجة أقل.
منذ أكثر من عقدين، يقدّم المغرب وتونس والجزائر مستويات سينمائية جيدة، تمضي بتسارع نحو الأحسن. جودتها متأتية من جودة اشتغالاتها السينمائية، إخراجاً وكتابةً وتصويراً وتمثيلاً، إلى درجة أنّ السينما في هذا الجزء من العالم العربي تُقدّم، بمسار ثابت، الجيّد والمتميّز، بينما يبقى التباين بينها قائماً، لكنّه لا يصل إلى درجةٍ ملحوظة في شدّة افتراقه، أو أنّه يبدو مُتراجعاً بقوّة عن سابقاته من أفلامٍ جيدة.
المُنجز الروائي في تونس يشهد ازدهاراً، رغم قلّته. هذا ينسحب على الجزائر والمغرب أيضاً: قلّة عدد الأفلام يقابلها ارتفاع في مستوى جودتها وإضاءتها مناطق شديدة الحساسية، مجتمعياً وسياسياً.
هذا الوضع أحدث تقسيماً غير مُعلن حصل في العقدين الأخيرين بين سينمتين: مشرقية ومغاربية. لتجنّب الخوض عميقاً في هذا التوصيف، وتدقيقه اصطلاحياً، يُشار إلى أنّ السينما في العالم العربي تشهد تقسيمات جغرافية أيضاً، تتجسّد سينمائياً بكلّ محمولاتها الثقافية والفكرية. فسينما المغرب العربي تتمتّع بحرية تعبير لا تملكها مناطق أخرى في الشرق العربي. هذا متأتٍ أساساً من جمعها بين عمق ثقافتها العربية والإسلامية، وتأثّرها بالحداثة الفرانكوفونية. يوفّر هذا الجمع لها مساحة لاختيار موضوعات شديدة الحساسية محلياً، تشترط للمتصدّي لها سينمائياً توفّره على معرفة كافية بها، وفهماً خاصاً للحاصل فيها، ولا بأس من الاستعانة في قراءته وتحليله لها بالخزين التنويري الذي تقدّمه الثقافة الفرانكوفونية له. هكذا يتقلّص حجم التابوهات في السينما التونسية والمغربية تحديداً، بينما يُلاحَظ ابتعاد السينما الجزائرية عن موضوعات كرّست لها جهداً كبيراً ومالاً كثيراً، كـ"الاستعمار الفرنسي" البغيض وويلاته، و"الهجرة" ومُخلّفاتها النفسية والاجتماعية العميقة. وبدلاً من الاكتفاء بها، يتناول السينمائيون الجزائريون اليوم، في أفلامٍ رائعة، موضوعات تمسّ واقع الجزائريّ، وتبحث في علاقاته بالآخر، القريب والبعيد.
المُتغيّر الجديد يجد تعبيراته في أعمال سينمائية قريبة العهد، يُشار إلى بعضها للتدليل على المُتحوّل في المشهد المغاربي، الموصوم باشتغالات جمالية عالية، وقَصّ بأسلوبٍ سينمائي بارع. يُقدّم الجزائري مرزاق علواش، في "الصف الأول" (2024)، نصّاً سينمائياً مشحوناً بروح فكهة، في داخله تعتمر أوجاع أبطاله، وسيطرة فكرة الرحيل إلى مكان آخر على تفكيرهم، لتحيل المشهد المبهج لحياة عادية إلى سوداوية، يقارب أسوب نقلها إلى السينما بأعمال أساتذة الفنّ السابع. الانتقال من التصادم الحضاري إلى فكرة العيش المشترك وتفاعل الثقافات يُحدثها كريم بن صالح في نصّه الجميل "فوق الضريح" (2023). ومع اشتغالاته الجمالية اللافتة بحضورها، يتقارب معها مُنجز أنيس جعاد "أرض الانتقام" (2024)، الباحث في جوّانيات الكائن القلق، المُحاصَر بالعزلة.
تونسيون يقاربون ثيمة الإرهاب بمعالجات تؤكّد التوصيف السابق من أنّ هناك سينما مغاربية تحافظ على مستويات الجودة، بتنويعات سينمائية لافتة بفائض جماليات اشتغالها، كما في روائي لطفي عاشور "الذراري الحُمر" (2024)، وقبله بعامٍ تُقدّم كوثر بن هنية وثائقيّها "بنات ألفة"، الذي تجمع فيه بين السرد البصري الروائي والوثائقي، وتعالج موضوعاً يُشغل بال العالم العربي، لكنّ تناوله بأسلوب سينمائي متميّز يحتاج إلى مهارة وفهم جيّدين، ويظلّ محصوراً بسينمائيين موهبين، ومشروطاً بتوفّر حاضنة سينمائية كالموجودة اليوم في دول المغرب العربي، وتشير إلى تغيّر حاصل في مشهدها السينمائي.
الجديد كلّياً في المشهد السينمائي العربي يأتي من مشرقه، من المملكة العربية السعودية تحديداً. فمن انكفاء عن السينما طال زمناً، إلى الرهان عليها لتثبيت المتغيّرات الحاصلة في البلد، ثقافياً واجتماعياً تحديداً. هذه التحوّلات تجد تعبيراتها الأشدّ بروزاً في الحراك السينمائي الجاري فيها، الذي لا يقتصر على الإنتاج المحلي وزيادته، بل يتعدّاه إلى المجالات المكمّلة للصناعة السينمائية. ارتفاع حجم المنتج السينمائي السعودي، في السنوات القليلة الماضية، والمُلازم له تطوّر نوعي، يشير إلى التغيير الحاصل في مشهدها السينمائي. السينما السعودية "سينما فتية"، لكنّها طموحة. هذا التوصيف مناسب لها. سينما تنشد إنجاز أفلام تعالج أوضاعاً اجتماعية، وتتناول قصصاً شديدة الصلة بمناحي الحياة وتعقيداتها، كـ"مندوب الليل" (2023) لعلي الكلثمي، الذي يحاول فيه رصد الحياة الباطنية لمدينة الرياض، ويلامس الفوارق الطبقية في المجتمع بأسلوب سينمائي معتنى بكتابة نصّه وإخراجه. لا غرابة في مشاركته، العام الفائت، في "مهرجان تورنتو السينمائي"، ولا حصوله على جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي طويل فيه. فيلم يجيز القول إنّه يتجاوز التقليدي في السينما السعودية، ويطرح نموذجاً جديداً يقارب النموذج الذي يقدّمه "هجّان" (2023) للمصري أبو بكر شوقي (إنتاج سعودي)، المتميّز بجماليات اشتغاله وبحثه عن أسلوب سرد حداثوي، يضعه بين الأفلام السعودية جديدة التوجّه.
لن يُصدّق أحدٌ أنّ بلداً انقطعت السينما فيه لعقودٍ، مع استثناءات وتجارب فردية قليلة وطليعية، يُقدّم اليوم أفلاماً تُعيد النظر في المشهد السينمائي القديم، وتدفع صنّاع السينما والمعنيين بشأنها إلى البحث عن الجديد، والتفكير في إكمال تفاصيل أخرى مكمّلة لها، كتخصيص هيئة للأفلام، وعرض المنتج السعودي في صالات العرض التي تشهد بدورها إقبالاً شديداً من الجمهور على المعروض فيها. يبتكر المعنيون بها مشاريع تحثّ على البحث النظري، كـ"مؤتمر النقد" الذي بدأ قبل عامين، وتوزّعت نشاطاته على مدن سعودية، بمشاركة نقّاد عرب وأجانب، ببحوث ودراسات نقدية.
في السياق نفسه، ظهر موقع "فاصلة" النقدي الذي أخذ مكاناً مهمّاً في المشهد الإعلامي السينمائي. على مستوى المهرجانات، وفي سنوات قليلة، تموضع "مهرجان البحر الأحمر السينمائي" في جدة بين أهم المهرجانات العربية.
المتغيّر الآخر يحدث في الدوحة، في "مؤسسة الدوحة للأفلام" تحديداً، التي تدعم أفلاماً من كلّ حدب وصوب، وأغلبها جيّد. أنْ تُقدّم مؤسّسة عربية دعماً لسينمات من خارجها يُعدّ مؤشّراً مهمّاً على الرغبة في تطوير فنّ السينما في كل مكان. الفرق بين ما يحصل في الدوحة والرياض أنّ إنتاج الأولى قليلٌ، لا يتناسب مع حجم الدعم المُقدّم منها للسينما، بينما الثانية تخطو إلى الأمام بوتيرة متسارعة، وتأخذ مكانها المتميّز في المشهد السينمائي المشرقي الجديد.
لا سينما عربية بل سينمات ولا سينما بل أفلام
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5890-7-3.jpg)
نشر في: 13 فبراير, 2025: 12:03 ص