TOP

جريدة المدى > سينما > الجدار.. ثنائية التحريض والاحتجاج

الجدار.. ثنائية التحريض والاحتجاج

نشر في: 20 فبراير, 2025: 12:03 ص

عدنان حسين أحمد - لندن
تترصّع غالبية أفلام المخرج هادي ماهود بأفكار التنوير والتحريض والاحتجاج حيث يعتمد على كشف الحقائق، وخرق المحجوب الذي يضعهُ في دائرة الخطر. ويكفي أن نشير إلى أفلامه التحريضية التي تدعو، في الأقل، إلى الاحتجاج، والتظاهر، ومقارعة المسؤولين الذين يقفون وراء إفقار الناس ومصادرة حقوقهم الشخصية والعامة من بينها "انهيار"و "سوق سفوان" و "ساوة" وما سواها من أفلام لا تُهادن السلطات المحلية والمركزية. وفيلم "الجدار" لا يخرج عن إطار أفلامه الوثائقية التي تستقصي ظاهرة الفساد المُستشري في محافظة السماوة، واستباحة المال العام، والتجاوز على عقارات الدولة وممتلكاتها وأراضيها الشاسعة التي تُباع في وضح النهار من قِبل المسؤولين والأشخاص المتنفّذين في الأحزاب السياسية الذين يدسّون أنوفهم في البنايات التابعة لبلدية السماوة بغية منحها لهذا المُستثمر أو ذاك حتى وإن تسبّب هذا المشروع بالضرر للمواطن العادي الذي يجد نفسه وحيدًا وضعيفًا أمام جبروت السلطة وقوّتها، كما حصل لأصحاب العمارة السكنية التي تسكنها 54 عائلة تنتمي غالبيتها إلى الطبقة الفقيرة التي لا تستطيع أن تقيم في بيوت منفردة تكلّفها أكثر من طاقتها المادية المتواضعة، كما تتضمن هذه العمارة 52 محلًا "تجاريًا" سوف تتعرّض جميعها إلى "قطْع الأرزاق" لأنّ الحكومة المحلية قد سوّرت هذه البناية بالجدران الكونكريتية بحجة أنّ شُرُفاتها تعاني من النخر والتآكل وأنّ البناية برمتها آيلة للسقوط الأمر الذي منعَ المواطنين من المرور تحتها أو التبضّع من دكاكينها أو إيقاف سياراتهم إلى جوارها خشية من انهيارها المفاجئ.
لم يتوسّع المخرج في عدد الشخصيات المتكلمة وقد اكتفى بستٍ منها وهم عبدالجواد الأسدي، وهو بائع ملابس رجالية في السوق المُسقّف. ومنصور مجيد الذي يستأحر محلًا كبيرًا في البناية، وقد أثّرت الجدران الكونكريتية عليه وأدخلتهُ في دائرة الانفعال والتذمّر من إجراءات البلدية والحكومة المحلية التي حاصرته مثل البقية الباقية من أصحاب المحلات والدكاكين التي كانت عامرة قبل الحصار الكونكريتي وترويج الإشاعات المغرضة بصدد البناية الآيلة للسقوط. ومحمد الفرطوسي، الناشط المدني المُلِمّ بموضوع الفساد وقضايا المستثمرين في المحافظة والعراق عمومًا. والدكتور أحمد عبدالعال، الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة المثنى، إضافة إلى أحمد محسن دريول، رئيس مجلس المحافظة. وعبد الحسن خلف، قائمقام السماوة الذي يتهرب من مواجهة كاميرا المخرج ويتفاداها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. يُذكِّرنا البائع عبدالجواد الأسدي بأنّ هذه العمارة مبنية منذ الثمانينات من القرن الماضي لكنها لم تحظَ بالصيانة أبدًا. ثم يعرّج على جوهر المشكلة ويلامسها حين يقول إنّ هذا السوق كان ممتلئًا بالأعراس لكنهم ما إن وضعوا "الصبّات" حتى أصبح الرزق صعبًا، وهربت الناس من هذا السوق إلى أماكن أخرى خشية أن يوقفوا سياراتهم بجوار هذه البناية الآيلة للسقوط كما تدّعي الجهات الحكومية. ولا ينسى هذا المواطن البسيط التأكيد على أنّ البلد خرب ولا يعمّره إلّا أهله، ويتمنى في خاتمة حديثة للعراق والعراقيين التوفيق والسداد.
أمّا المتحدث الثاني فهو منصور مجيد وهو شخصية تحريضية واحتجاجية يهدد المسؤولين والشخصيات الحزبية المتنفذة ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يكفوا عن إساءاتهم للمواطنين العُزّل والناس الفقراء من سكنة العمارة خاصة والمدينة بشكل عام. رفعت البلدية شكوى إلى المحكمة متهمة الساكنين بالتجاوز على أملاكها وعدم إخلاء العمارة الآيلة للسقوط وحذّروهم بأنهم سيهدّمون العمارة على رؤوس ساكنيها فترتفع نبرته الاحتجاجية والتحريضية ثانية ليتساءل بصوتٍ عال:"هل نحن مجرمون وخونة ولصوص مثلكم؟ ثم يتصاعد حسّه التوعوي حينما يثير قضية قطع الأراضي باهضة الثمن، ومَن الذي باعها وقبض الثمن؟ ثم يطلب منهم أن يرمموا العمارة ويتركوا المواطنين يعيشون ويستكنّون في شققهم وإلّا فسوف يفضحهم بالأسماء الصريحة لأنه يمتلك الأدلة الدامغة التي تُدينهم وتكشف سرقاتهم لقطع الأراضي والمال العام. ويُلقي باللائمة على رأس الهرم الذي يتألف من المحافظ والقائمقام ومدير البلدية ويعترف بعدم قدرته على جلب المحافظ السابق لأنه سوف يُقاضيهم حتمًا بوصفه سلطة عليا في المحافظة. يعتقد منصور بأن هذه العمارة غير آيلة للسقوط حسب تقرير المختبر الإنشائي الموجود في كليّة الهندسة. وأنّ المُشكلة تكمن بالشُرُفات فقط لأنّ العوائل الفقيرة تضع غسالاتها فيها فيتسرّب منها الماء إلى أرضية الشارع. يختم منصور حديثه بأن البلدية وضعت الحواجز الكونكريتية التي تُشبه جدارًا عازلًا أمام المحلات فمنعت عملية التبضّع، وحفلات الأعراس لـ 52 محلًا متنوعًا تحيط العمارة من جهتيها الأمامية والخلفية ومن جهة شارع باتا أيضًا.
ومثلما تهرّب المحافظ السابق أحمد منفي من الوقوف أمام عدسة المخرج هادي ماهود المتربص بقضية الفساد والمفسدين يتهرّب عبدالحسن خلف، قائمقام السماوة متذرعًا بأن لجنة البنايات الآيلة للسقوط تابعة للبلدية، وأنه سيكون رئيسًا لهذه اللجنة إذا ما بدأوا بعملية التقويض التي لم تبدأ بعد.
لا يأتي الناشط المدني محمد الفرطوسي بجديد حينما يقول إنّ الأخطاء متراكمة منذ زمن المحافظ السابق أحمد منفي، فلقد شهدت المحافظة استباحة للمال العام، وهناك انتهاك صارخ للقانون، وهذه التجاوزات مسجلة في هيأة النزاهة وما تزال في طور التحقيق. وتحدث الفرطوسي عن مراحل الإنجاز التي تتيح للمستثمر الذي يحصل على القروض إذا حقق نسبة إنجاز معينة لغرض الحصول على قروض استثمارية أو بيع المشاريع إلى مستثمرين آخرين. ويخلص الفرطوسي إلى القول بأن الفساد محميٌ في العراق والمثنى بنسبة كبيرة.
يعتمد هادي ماهود في أفلامه الاستقصائية كلها على المختصين فلا غرابة أن يستضيف المهندس المعماري الدكتور أحمد عبدالعال الذي يرأس فريقًا استشاريًا اطلعوا على البناية ولكنهم لم يجدوا تشققات عميقة، وإنما وجدوا ترهلًا في الشرفات الموجودة في واجهة المبنى، وقد أوصت اللجنة بإعادة ترميمها أو إزالتها بالكامل من دون أن يؤثر ذلك على المبنى المُشيّد. أما آخر المتحدثين فكان أحمد محسن دريول، رئيس مجلس محافظة المثنى الذي اعترف بوجود الكثير من العمارات المتهالكة لكن المشكلة تكمن في وجود الساكنين الذين يجب أن توفر لهم البلدية بدائل وهم في الأعم الأغلب فقراء اضطروا للسكن في هذه الشقق الضيقة والمخنوقة. ووعد دريول باستضافة مدير البلدية، ومدير الدفاع المدني، والمسؤول عن عقارات الدولة في المحافظة ليتعرّف على حيثيات الموضوع ويتوصلوا إلى أفضل الحلول وأنجعها.
لم يتحقق اللقاء مع مدير البلدية المالكة للعمارة الأمر الذي دفع المخرج لتأجيل موعد المقابلة التي صرف عنها النظر لأن العمارة قد سُلِّمت للمستثمر. وبدأ بترميمها لكنه سوف يغيّر عقود النزلاء لاحقًا. أمّا بناية البيت الثقافي العراقي فقد هُدّمت بحجة أنها آيلة للسقوط وسُلّمت إلى مستثمر أجّر بعض محلاتها ومن ضمنها الصيدلية التي تقع في مكان البيت الثقافي نفسه.
يمكن القول بأنّ هناك مساحة من الحرية رصدها المخرج من خلال تصوير إحدى "الصبّات" الكونكريتية المكتوب عليها بخط جميل "جدار العار" التي لم يجرؤ أحد في زمن النظام السابق أن يخطّها ويتركها متاحة لأعين الناظرين حتى تأتي رافعة كبيرة وتنقلها إلى مكان آخر بعد انتفاء الحاجة إليها وشروع المستثمر بترميم البناية التي نتمنى أن تعود إلى سابق عهدها من المتانة والرصانة والجمال.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفياض: الحديث بالخفاء ضد الحشد "خيانة"

العراق يعلن انحسار الإصابات بالحمى القلاعية

موجة باردة تجتاح أجواء العراق

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الجدار.. ثنائية التحريض والاحتجاج

دفاتر السينما في عددها الأول 2025

عرض تسعة أفلام مدعومة من مؤسسة البحر الأحمر في مهرجان برلين السينمائي

مقالات ذات صلة

الجدار.. ثنائية التحريض والاحتجاج
سينما

الجدار.. ثنائية التحريض والاحتجاج

عدنان حسين أحمد - لندن تترصّع غالبية أفلام المخرج هادي ماهود بأفكار التنوير والتحريض والاحتجاج حيث يعتمد على كشف الحقائق، وخرق المحجوب الذي يضعهُ في دائرة الخطر. ويكفي أن نشير إلى أفلامه التحريضية التي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram