بغداد/ تبارك عبد المجيد
تمثل برامج الرعاية الاجتماعية إحدى الأدوات لدعم الفئات الأكثر احتياجًا، لكنها في الوقت ذاته تعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. فمع تزايد أعداد المستفيدين، يتجلى الفشل في تحقيق التنمية المستدامة، حيث يستمر الاقتصاد في الاعتماد على الإيرادات النفطية دون وجود بدائل إنتاجية حقيقية.
ورغم أهمية هذه البرامج في التخفيف من حدة الفقر والبطالة، إلا أنها أصبحت ساحة لاستغلال القوى السياسية، ووسيلة لتحقيق مكاسب انتخابية على حساب المستحقين الحقيقيين. كما أن الفساد وسوء الإدارة أسهما في إفراغ هذه المنظومة من أهدافها الأساسية.
أدوات "انتخابية"!
ويؤكد الناشط السياسي علي العنبكي أن "الارتفاع المستمر في أعداد المستفيدين من رواتب الرعاية الاجتماعية يعكس وجود ازمة اقتصادية في العراق"، مشيرا الى "فشل الحكومات المتعاقبة في وضع خطط تنموية حقيقية للحد من البطالة والفقر، فبدلًا من أن يكون توسع شبكة الحماية الاجتماعية مؤشرًا على تحسن الأوضاع المعيشية، فإنه يكشف عن تفاقم المشكلات الاقتصادية واعتماد أعداد متزايدة من المواطنين على المساعدات الحكومية".
واعتبر العنبكي في حديث لـ(المدى)، "الزيادة مؤشرا سلبياً، في ظل اعتماد العراق شبه الكامل على واردات النفط لتغطية الرواتب، دون وجود دعم حقيقي للمشاريع الإنتاجية في القطاعين العام والخاص".
وبين ان "النمط الاقتصادي في العراق، القائم على الاستهلاك بدلًا من الإنتاج، حيث يفتقر العراق إلى صناعة قوية وزراعة مستدامة تضمن خلق فرص عمل جديدة وتحقيق التنمية الاقتصادية".
ويرى العنبكي أن الفساد وسوء الإدارة يمثلان أحد الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة، إذ أدى ضعف الرقابة ووجود المحسوبية إلى تجاوزات واسعة في شبكة الحماية الاجتماعية، حيث يحصل العديد من غير المستحقين، بمن فيهم ميسورو الحال، على رواتب الرعاية الاجتماعية بطرق غير قانونية. ويعود ذلك إلى تعدد السلطات بين الأجهزة الأمنية، الأحزاب، والعشائر، ما خلق بيئة مواتية لاستغلال هذه البرامج". ولفت العنبكي، إلى أن "بعض القوى السياسية تستغل برامج الرعاية الاجتماعية كأداة انتخابية، حيث يستخدم المرشحون تسجيل المواطنين في هذه البرامج كوسيلة لاستقطاب أصوات الناخبين، وذلك من خلال التواطؤ مع موظفين فاسدين مرتبطين بأحزابهم. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى إهدار الموارد المالية، بل تسهم أيضًا في ترسيخ الفساد".
من جهته، يتساءل المحلل السياسي، محمد زنكنة، عن إمكانية تطبيقه في ظل الفساد المالي والإداري المستشري في مؤسسات الدولة.
ويؤكد زنكنة في حديث لـ(المدى)، أن "جميع دول العالم تعتمد أنظمة للضمان الاجتماعي والصحي لحماية المواطنين من مختلف الطبقات، لكنه يشير إلى أن تطبيق هذا النظام في العراق يواجه عقبات عديدة، أبرزها الوضع الاقتصادي الهش، والتفاوت الطبقي الكبير، والرواتب الوهمية التي تستهلك ما بين 30 إلى 40 في المائة، من الميزانية العامة".
ويكشف زنكنة، عن ظاهرة الرواتب الوهمية التي تُصرف لأسماء غير موجودة أو لأشخاص متوفين، فضلًا عن التلاعب في الهويات وسرقة المال العام، خصوصًا في المنظومة الدفاعية والعسكرية، مما يجعل من الصعب تنفيذ نظام ضمان اجتماعي عادل.
كما يطرح تساؤلات حول كيفية التعامل مع الطبقات الفقيرة التي تعيش تحت خط الفقر، في مقابل أصحاب المليارات الذين ظهروا بعد عام 2003، ومدى التزامهم بدفع الضرائب، فضلًا عن موقف المسؤولين وأصحاب المناصب العليا من هذه الالتزامات المالية.
ويرى زنكنة أن "الحديث عن الضمان الاجتماعي ليس سوى شعار انتخابي يُستخدم لكسب التأييد الشعبي، مثل العديد من المشاريع الكبرى التي لم تُنفذ، ومنها قطار بغداد المعلق، وميناء الفاو، وطريق التنمية".
ويبين، أن هذه "القضايا تبقى مجرد وعود إعلامية لا تجد طريقها إلى التنفيذ، في ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح الاقتصادي والإداري في العراق".
وأعلنت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق في نيسان 2024 أن عدد المشمولين برواتب الرعاية الاجتماعية بلغ سبعة ملايين و600 ألف شخص، وهو ما يمثل حوالي 20 في المئة من سكان العراق، يهدف برنامج الرعاية الاجتماعية، بحسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إلى دعم الفئات الأكثر احتياجاً وفقاً لقانون الرعاية الاجتماعية رقم 11 لسنة 2024. ويشترط القانون أن يكون المستفيد عراقي الجنسية ومقيماً بشكل دائم، وألا يقل عمره عن 18 عاماً.
كما يُشترط أن يكون عاطلاً عن العمل ولا يمتلك مصدر دخل ثابتاً، أو وظيفة حكومية، أو معاشاً، أو أصولاً عقارية، أو مشاريع، أو سيارات موديلها أحدث من 2014. وتشمل الفئات المستفيدة الأرامل، المطلقات، زوجات المفقودين، العازبات فوق 35 عاماً، المهجورات من أزواجهن، الأيتام، والعاجزين البالغين 60 عاماً فما فوق.
وتتفاوت رواتب الرعاية الاجتماعية وفقاً لحجم الأسرة، حيث يحصل رب الأسرة المكونة من أربعة أشخاص على 420 ألف دينار شهرياً، بينما يحصل المعيل لأسرة من ثلاثة أشخاص على 315 ألف دينار، ويبلغ راتب الفردين 210 آلاف دينار، أما المواطن بمفرده فيحصل على 105 آلاف دينار فقط.
ما الغرض من الرعاية الاجتماعية؟
تُعد رواتب الرعاية الاجتماعية في العراق أداة أساسية لدعم الفئات المستهدفة، مثل العاطلين عن العمل، الأرامل، والأيتام، بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية وتقليل معدلات الفقر. إلا أن هذه الرواتب تواجه تحديات كبيرة بسبب التجاوزات والفساد، حيث يستفيد منها غير المستحقين على حساب الفئات الأكثر احتياجًا، وفقًا لما أكده نوار السعدي، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بوخارست – رومانيا.
في حديث لـ(المدى)، يشير السعدي إلى أن "هناك تقارير تؤكد تدخل بعض القوى السياسية في توزيع هذه المساعدات، خاصة خلال الفترات الانتخابية، ما يجعلها أداة سياسية تُستخدم لاستقطاب الناخبين، أو تُوزع وفق الولاءات السياسية، وهو ما يضر بمبدأ العدالة الاجتماعية ويؤدي إلى تهميش الفئات الأشد احتياجًا".
وأكد، أن "الهدف الأساسي من الرواتب الاجتماعية هو توفير شبكة أمان للفئات الضعيفة، إلا أن سوء الإدارة واستغلال هذه الرواتب قد يحولها إلى وسيلة لاستغلال حاجة المواطنين بدلاً من دعمهم فعليًا"، لذا، شدد السعدي على ضرورة تعزيز الشفافية ووضع آليات رقابة صارمة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها الحقيقيين.
أما فيما يتعلق بتأثير الرواتب الاجتماعية على الشباب، فقد أشار السعدي إلى أنها "تمثل سلاحًا ذا حدين؛ فمن جانب، تساعد في تخفيف الأعباء الاقتصادية، ومن جانب آخر، قد تشجع البعض على الاتكالية بدلًا من البحث عن فرص عمل والمشاركة الفعالة في سوق العمل".
وأضاف أن استمرار تقديم الرعاية الاجتماعية للشباب دون ربطها ببرامج تدريب وتأهيل مهني قد يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة ويعيق جهود التنمية. وفي هذا السياق، أوصى السعدي بتطوير سياسات تجمع بين الدعم المالي وتوفير فرص عمل حقيقية، لضمان تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.
كما دعا إلى إصلاح جذري لنظام الرعاية الاجتماعية في العراق، بحيث يتم تصميم برامج تتماشى مع احتياجات الفئات المستهدفة، وتضمن توجيه الموارد بشكل عادل وفعال، بما يسهم في تعزيز التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وأصدرت وزارة العمل في حزيران العام الماضي، بياناً، بينت خلاله أن حجم الإنفاق السنوي على المشمولين بالرعاية بلغ حوالي 6 تريليونات و117 مليار دينار، يشمل 730 مليار دينار كرواتب للمعين المتفرغ في هيئة رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة. وبلغ متوسط راتب المعاق 170 ألف دينار، بإجمالي عدد مستفيدين يصل إلى 360 ألف شخص.
غياب التنظيم!
تواجه الحكومة العراقية تحديًا في تنظيم الإعانات الاجتماعية، التي تُعد ضرورة لدعم الشرائح العاجزة عن العمل والإنتاج، وفقًا للباحث الاقتصادي زياد الهاشمي، ورغم أهمية هذه الإعانات، إلا أن المشكلة تكمن في غياب التنظيم والرقابة في توزيعها، مما يؤدي إلى استفادة غير المستحقين منها. ويوضح الهاشمي لـ(المدى)، أن "جزءًا من العاطلين عن العمل يستحقون الدعم، لكن لا ينبغي أن يكون هذا الدعم مفتوحًا بلا قيود زمنية"، ويقترح تحديد فترة تمتد بين ستة إلى تسعة أشهر، يتمكن خلالها المستفيد من العثور على عمل، بدلًا من تحويل الإعانة إلى مورد دائم.
ويرى أن "استمرار الدعم دون قيود زمنية قد يؤدي إلى تراجع الحافز لدى الشباب القادرين على العمل، مما يجعلهم يعتمدون على المساعدات بدلًا من البحث عن فرص إنتاجية".
ويشدد الهاشمي على "ضرورة إعادة هيكلة نظام الإعانات من خلال عمليات تنظيم دقيقة تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه الفعليين، وإقصاء القادرين على العمل وإدماجهم في سوق العمل".
ويلفت إلى أهمية دور القطاع الخاص وقطاع الأعمال في استيعاب هذه الفئات، بدلًا من الاعتماد على التعيينات الحكومية التي لم تعد خيارًا مناسبًا في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
ويؤكد، أن "مثل هذه الإجراءات ستسهم في تقليل النفقات العامة غير الضرورية، وضبط الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى إعادة شريحة الشباب إلى سوق العمل، مما يعزز من إمكانيات الاقتصاد العراقي ويحقق فوائد اجتماعية مستدامة".
ودعا الهاشمي، وزارة المالية الى، تبني سياسات أكثر صرامة في إدارة ملف الإعانات الاجتماعية، بهدف تحقيق التوازن بين دعم المستحقين وتحفيز الشباب القادرين على المساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني.