TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: درس في الجمال

باليت المدى: درس في الجمال

نشر في: 24 فبراير, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

كيف يمكننا من خلال الفن، تحويل التعاسة الى حب والظلام الى نور؟ هل يمكن إستثمار طاقة الأشياء التي تبدو كالحة وحزينة وصامتة مثل الحجر، ونمدها بعمر جديد؟ وهل بإستطاعتنا حقاً أن نستبدلَ حالة الموت بنوع من الحياة التي تبهر القلوب وتُسر الأنظار؟ وكيف لنا أن نَهِبَ موتنا وموت الآخرين نوعاً من الجمال والطاقة المتفردة؟ ربما تُفيدنا هذه التساؤلات وغيرها حين نتحدث عن موت راقص الباليه الروسي الشهير رودولف نورييف (١٩٣٨-١٩٩٣) الذي أبهر العالم أثناء حياتة المليئة بالرقصات المذهلة والمواقف التي تبدو متقلبة، ونتوقف عند موته الذي أصبح لافتاً بسبب شكل القبر الذي دُفن فيه، والذي هو الخيط الأحمر لموضوعنا هنا. فما هي قصة هذا القبر ولماذا صارَ فريداً؟ وأين هو الجمال الذي يكمن في مكان صامت بل ميت مثل قبر؟
لا يمكن لأي شخص يود الإقتراب من قبر نورييف إلا ويتسائل عن سبب تغطيته بهذه السجادة الفاخرة! سجادة نادرة تُشرق طياتها بجمال أخّاذ. ألا يخافون أن ينتزعها اللصوص من القبر أثناء الليل، أو يسرقها شخص مُعوَز؟ ألا يخشونَ أن تتلاقفها الرياح وتُتلِفُها الأمطار وتفسدها حرارة الشمس؟ وكيف يمكن لهذا الكليم الجميل أن يُرمى هكذا على سطح هذا القبر الذي يربض وسط المقبرة محاطاً بشواهد واجمة؟ لكن الإجابة على كل ذلك تأتي سريعاً حالَ إقترابنا من القبر أكثر، وإتضاح أن السجادة الثمينة ليست سجادة أبداً، بل هو عمل فني بهيئة سجادة، هي قطعة فنية باهرة الصنعة وفائقة الدقة من الموزائيك الملون والبرونز. وبهذه الطريقة المبتكرة تَحَوَّلَ القبر الى شيء آخر، وكأن نورييف -الذي يطلقون عليه ملك الرقص- قد إستمدَ منه حياة جديدة وجميلة مثل رقصاته المذهلة.
كان نورييف مغرماً بالمنسوجات والبسط والسجاد الشرقي، وقد جمع منه الكثير من القطع النادرة والجميلة، حيث كان يرى في تنوع الخطوط والزخارف والموتيفات الملونة لهذا السجاد، مرادفاً للرقصات الشعبية التي كان مغرماً بتأديتها في صباه. انه يشم من خلالها رائحة الشرق وبهجة ألوانه ودفء مناخه، وفوق كل هذا، فهي تُعيده الى المكان الذي جاء منه، حيث وُلِدَ سنة ١٩٣٨ لعائلة مسلمة من التتار بالقرب من سبيريا، وهناك تعلم الرقص الذي شجعته عليه والدته، ليصبح أسطورة في عالم الباليه. وقد إنتبه لحب نورييف للسجاد صديقه ومصمم ديكورات رقصاته وعروضه، المصمم إيزيو فريجيريو، الذي رافق نورييف سنوات طويلة وشاركه نجاحاته وتقاسم معه ذكريات مهمة وجميلة، حتى أنه شاهده أكثر من مرة يتدفأ بأحد الكليمات الصوفية التي تُعيده الى ذكريات أهله. لذا عند وفاة نورييف، بحثَ صديقه المصمم عن فكرة فريدة للقبر، فكرة تعكس روح نورييف وشغفه وأصوله، وفوق كل هذا أن يكون القبر جميلاً ويجذب محبي الراقص العظيم. الى أن وقعت عينه على الكليم الذي كان نورييف يتدفأ به، فقامَ بتصميم فكرة القبر الذي مازال الناس من كل العالم يقومون بزيارته والوقوف على الجمال الذي يعيدهم الى الراقص المحبوب، وينبهرون بفطنة صديقه المبدع الذي إتفق مع المهندس المعماري ستيفانو بيس وفنانة الموزائيك فرانشيسكا فابري لمساعدته في إنجاز هذا النصب.
درس نورييف الرقص في أكاديمية فيجونوفا بمدينة بطرسبورغ، وذاعت شهرته وإرتفعت مكانته بعد أن أصبح أفضل راقص في الاتحاد السوفيتي، كما قدم تفسيرات جديدة للباليه الكلاسيكي، لتزيد شهرته بإعتباره مجدداً. وقد سافر مع فرقته سنة ١٩٦١ الى باريس وهناك فضل عدم العودة للبلاد وصار يتنقل في العالم بعد أن أطبقتْ شهرته كل مكان، وصارَ مديراً لفرقة باليه باريس.
ذهبَ نورييف وبقي قبره يلتمع وسط المقبرة الروسية في (سانت جنيفييف دي بوا) في ضواحي مدينة باريس، وفي كل مرة يقع نظر الناس عليه، يحسونَ دون أدنى شك بـأن نسمات الهواء ستحرك حافة الكليم الملون وتهز أطرافه المترفة، ذلك من فرط رهافته وإنسجامه. انه عمل فني فريد وجديد ومؤثر، رفعَ الموت للأعلى وجعلَ القبر بمثابة تحفة فنية، حيث تآلفتْ أحجار الموزائيك مع بعضها لتكمل هذا التكوين الذي يجعلنا نعرف أن الفن العظيم لا يكمن في صالات المتاحف ولا في قاعات العروض فقط، بل يمكنه أن ينبثق بين الناس في الحدائق والأماكن غير المتوقعة وحتى المقابر.
هذا العمل الفني هو درس في الجمال والأبداع والمتعة التي تبهر العين، وفوق كل هذا هو درس في معنى الصداقة، حيث نرى -رمزياً- كيف غطى المصمم المبدع صديقه الراقص العظيم الذي رافقه دائماً، وكأنه يسدل الستارة على آخر عروضه ويودعه الى الأبد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: تعريف المواطنة

العمود الثامن: آخر نكاتنا !!

تطبيقات الذكاء الاصطناعي: ثورة تعليمية قد تهدد أباطرة الدروس الخصوصية

العمود الثامن: حسقيل يرثي حالنا

مكرم الطَّالبانيّ: المخضرم السّياسيّ الأخير

العمود الثامن: عن التربية مرة اخرى !!

 علي حسين مرّة أخرى، الاختلاط ومطاردة الطالبات بسبب زيهن، أم تطوير منظومة التعليم والارتقاء بالمدارس والجامعات؟ تندلع الأسئلة مجدداً مع الاشتباك الدائر حالياً حول تراجع مستوى التعليم، هل نهتم بتحديث مؤسسات وزارة التربية...
علي حسين

باليت المدى: درس في الجمال

 ستار كاووش كيف يمكننا من خلال الفن، تحويل التعاسة الى حب والظلام الى نور؟ هل يمكن إستثمار طاقة الأشياء التي تبدو كالحة وحزينة وصامتة مثل الحجر، ونمدها بعمر جديد؟ وهل بإستطاعتنا حقاً أن...
ستار كاووش

قناطر: النثر المكتوب والشعر الذي لم يكتب بعد

طالب عبد العزيز أكاد أجزم بأنِّ الموت يدرك الشاعرَ قبل أنْ يكتب قصيدته التي أراد، وستبقى غصةً في قلبه، ذلك لأنَّ الشعرَ غير محدود، فما هو بعدد، ولا حجم، ولا مكان، ولا زمان، ولو...
طالب عبد العزيز

العراق والشيزوفرينيا السياسية تجاه سوريا

إياد العنبر لم تمض أيام على إعلان وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني عن تلقيه دعوة رسمية لزيارة العراق وأنه "سيكون قريبا في بغداد"، حتى صرح وزير خارجية العراق فؤاد حسين بأن الحكومة، ستوجه دعوة...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram