كريم راهي
يدفعني لزيارة فلورنسا فضولٌ شديد ناشئ عمّا أُشيع من أنّ كاتب القرن التاسع عشر، الفرنسي ماري هنري بيل (ستاندال)، قد أصيب بلعنتها بعد أن زارها وهو بعمر الرابعة والثلاثين ووضع مشاهداته لها ولأماكن أخرى في كتاب أسفاره (Naples and Florence: A Journey from Milan to Reggio)، وهو الكتاب الذي يتحدّث فيه عن جمال معالمها الفنيّة بانبهار مبالغ فيه، جعل النفسانيين فيما بعد، يستعيرون اسمه مقروناً بكلمة "متلازمة"، لوصف كل هوس مفرط يسبّبه كمٌّ من الأعمال الفنيّة تفوق طاقتُها الإبداعيّة قدرةَ المرء على الاستيعاب، وبالأخصّ حين تؤخذ مثل تلك الجرعة المضاعفة من الجمال دفعة واحدة، كما هي الحال حين تُقدّم في الغاليريهات والمتاحف وباقي المعارض الفنيّة التي غالباً ما تكوّن مادّة هذا الاضطراب البيئيّة.
ولربّما عُدّ الانبهار بالطبيعة نوعاً من أنواع تلك المتلازمة. وأذكر في هذا الصدد ما جاء في كتاب عن حياة (فان كوخ)، من أنّ والدته كانت "غالباً ما تجهش بالبكاء أمام مرأى الغيوم والأشجار".
وفقاً لما كتب ستندال، فهو ما أن خرج من كنسية (القلب المقدّس)، حتّى شعر بأنّ ضربات قلبه قد أخذت بالتسارع، وصار يخشى من أن يتهالك على الأرض، وخيّل له أنّ "مصادر الحياة قد جفّت" بعد لقائه بروائع الفن، إذ "بدا كلّ شيء كما لو أنّه بلا معنى، ضئيل ومحدود". ويُذكر أن ستندال كتب قبل وفاته تقريراً عن "نوبات عابرة من الحبسات الكلاميّة المرافقة لإقفار دماغي"، تشابه في بعض حالاتها المتلازمة التي حملت اسمه.
قد يؤدّي تضخّم الإدراك الجمالي لأعراض خطيرة، تكوّن نوبات من الهلوسة والارتباك المفرط أحياناً، أو خللاً مفاجئاً في التوازن وتضارباً في دقّات القلب أحياناً أخرى، ربما يصل الانبهار في بعضها حدّاً يدفع ضحيّته إلى الإغماء، كما حدث لبعض السيّاح أمام النسخة العارية لتمثال (داوود) للنحات الإيطالي (دوناتيلّلو) مثلاً، إذ يتحدّث تاريخ مشاهدات متحف ( Museo Nazionale del Bargello) في فلورنسا، أن الكثيرين من زوّار المعرض -تحصر الإحصائيّات أعمارهم ما بين 20 إلى 40 عاماً- أصابتهم نوبات من الهلع حيال هذا التمثال، جعلت بعضهم يتهالكون على الأرض، بينما انطرح آخرون مغشيّاً عليهم، فيما راح البعض يتجرّدون من ثيابهم أمامه، لا تسترهم سوى قبّعة وجزمة، محاولين الظهور بمثل ما كان عليه عري التمثال تماماً. ويكاد سكان فلورنسا والمدن الإيطالية أن يكونوا محصّنين ضدّ هذه المتلازمة، أي بمأمن منها، وأكثر من يصيبهم هذا الاضطراب، وفق الإحصائيّات، هم من الوافدين من خارج أوروبا.
ويبدو أنّ هذه المتلازمة لم تلفت نظر القائمين على مدينة فلورنسا، إلا بعد أن انتبهوا لوجود مشاكل متكرّرة من هذا النوع مع بعض السواح الآتين لزيارة كنيسة سانتا كروشه (الصليب المقدّس) وغاليري أفيتسي وقصر ميديشي ريكاردي ومتاحف توسكان، حيث كمّ الجمال الباهر الذي كان يدفع الكثيرين من مطيلي النظر إليه، للشكوى من أعراض الدوار.
ولقد أقيم مشفى لهذا الغرض في سانتا ماريانوفا، في ما بعد، ضمّ خيرة المعالجين لهذا النوع الفريد من المتلازمات، جعل طبيبته (غراتزيللا مغريني) تطلق عليه عام 1979، تسمية (متلازمة ستاندال)، حين أصدرت، بعد معاينة أكثر من مئة حالة حدثت لسائحي فلورنسا -من خلال قياس معدل ضربات القلب وضغط الدم ومعدل التنفس- كتابها عن الاضطراب الذي لم يكن قد اكتسب اسمه بعد، أو تُسجّل منه أيّة حالة مشابهة خارج فلورنسا، للدرجة التي دفعت (الرابطة الأمريكية للطب النفسي وتشخيص الاضطرابات العقلية) لعدم أخذ هذه المتلازمة على محمل الجدّ، أو إدراجها في دليلها الإحصائي.
وعلى الرغم من أنها متلازمة نادرة الحدوث، فقد صار إلى تدريب جميع حرّاس المتاحف على كيفيّة التعامل مع المصابين بهذا الاضطراب، إذ قد يؤدي في بعض حالاته إلى محاولة تحطيم العمل الفنّي الباعث عليه، كما حدث مع (الموناليزا). ولربما لا تشذّ قصة المثّال الإيطالي ميكائيل أنجلو مع منحوتته (النبيّ موسى) عن هذا النطاق.
شخصيّاً، أميلُ إلى دحض فكرة عدم وجود حالات من هذه المتلازمة خارج فلورنسا، لكنّي لا أحيد عن شروط جغرافيتها المكانيّة الأخرى التي تدعم هذه الظاهرة السيكولوجيّة الفريدة، وأعني المتاحف والقصور التاريخيّة، فلا ريب أن هنالك الكثير من متاحف العالم تضمّ بين جدرانها من الأعمال الإبداعيّة ما لا يقلّ إبهاراً عمّا ضمّته جدران قصور توسكان وسواها من المقابر الباذخة. فهنالك أوراق بحثيّة تتحدّث عن ظهور أعراض شبيهه على كلّ من الروائي الروسي فيدور دستويفسكي، وعالمي النفس سيغموند فرويد وكارل يونغ بعد مشاهداتهم لأعمال فنيّة ضخمة.
وليس بعيداً عن فلورنسا، فلم يسلم الكثيرون من زوّار (مكتبة الأمبروزيانا) في روما، من نوبات صرع شبيهة، ممن وقفوا يتأمّلون لوحة (الشاب المريض باخوس) للمصوّر الإيطالي (كارافاجّيو)، الذي قيل إنّه كان مصاباً بالشيزوفرينيا.
في تفسير علمي للظاهرة، يعتقد علماء أن هنالك مناطق دماغيّة تقوم بهذا الدور، هي نفسها المسؤولة عن ردود الأفعال تجاه العواطف الإنسانيّة التي تتسبّب بانهيارات نفسيّة حيال موت قريب أو هجر محبّ وما إلى ذلك. كما دفعت هذي الظاهرة المخرج الإيطالي (داريو أرجنتو) لصناعة فيلم روائي يحمل التسمية نفسها، تجري أحداثه في فلورنسا، معتمداً في قصّته على كتاب الطبيبة (غراتزيللا مغريني) المذكور آنفاً، وذلك عام 1996، أي بعد مضي سبعة عشر عاماً على نشره.
إنّ الحديث عن متلازمة فلورنسا يذكّر بمتلازمتي (القدس) و (باريس) نادرتي الحدوث بالمقارنة معها، فالأولى، كما يوحي الاسم، ترتبط بشعيرة الحج إلى القدس، والأشخاص الذين يعانون منها، توحي لهم الأوهام العقلية المرتبطة بقداسة المكان أنّ روحاً نورانيّة قد حلّت فيهم، ويأخذون بالتصرّف وكأنّهم شخصيّات قد خرجت توّاً من التوراة، وقد يذهب البعض إلى ادّعاء أنّه المسيح المخلّص نفسه. أما الثانية فهي صدمة ثقافيّة ترتبط بزيارة السيّاح -اليابانيين بالخصوص- للعاصمة الفرنسية، حين تتحطّم الأوهام التي صنعتها الأفلام والروايات الرومانسية أمام أول مشهد باريسي يرتبط بصخب المدينة المليئة بأعداد هائلة من السوّاح، وتتحطّم كل صور الحب والجمال التي كان الياباني يضعها في تصوّراته، قبل أن يترجّل من سلّم الطائرة.
النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

نشر في: 26 فبراير, 2025: 12:02 ص