بغداد/ تبارك عبد المجيد
في الوقت الحالي لم يعد الإدمان مقتصرًا على المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية، بل ظهر نوع جديد من الإدمان لا يقل خطورة، وهو الإدمان الإلكتروني، الذي أصبح ظاهرة متزايدة بين الأطفال، الذين يقضون ساعات متواصلة بمشاهدة مقاطع الفيديو وتنزيل الالعاب الالكترونية، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا على صحتهم النفسية والجسدية ومستواهم التعليمي.
ويشكو الأهالي من إدمان أطفالهم على الهواتف الذكية، حيث أصبحوا يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات، متجاهلين دراستهم وواجباتهم المدرسية.
ويعاني الكثير من الآباء والأمهات من تكاسل أبنائهم وعزوفهم عن اللعب مع أقرانهم أو المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، مفضلين العزلة مع أجهزتهم.
وتصف الباحثة الاجتماعية أستبرق احمد البياتي، الظاهرة بأنها "إحدى أخطر التحديات التي تواجه الأجيال الجديدة"، مشيرةً إلى أن الإدمان على الإنترنت يترك آثارًا سلبية عميقة على الدماغ والعقل، قد تصل إلى مستوى التأثيرات التي تسببها المواد المخدرة. فوفقًا لدراسات حديثة، فإن الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية يؤدي إلى تدهور خلايا الدماغ، ويؤثر سلبًا على الصحة النفسية، حيث يعزز مشاعر الاكتئاب، والانطواء، والوحدة لدى الأطفال".
لا تتوقف آثار الإدمان الإلكتروني عند الجانب النفسي فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيرات فسيولوجية خطيرة، أبرزها مشكلات في الرؤية مثل ضعف البصر واحمرار العينين، إضافة إلى السمنة وآلام العمود الفقري الناتجة عن الجلوس المطول أمام الشاشات. كما أن التأثيرات تطال أيضًا العملية التعليمية، حيث يؤدي الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية إلى تراجع المستوى الدراسي للأطفال، نظرًا لانخفاض قدرتهم على التركيز والاستيعاب، مما ينعكس سلبًا على تحصيلهم العلمي.
وتحذر البياتي خلال حديثها مع (المدى)، من أن "قضاء أكثر من أربع إلى ست ساعات يوميًا أمام الأجهزة الإلكترونية يعد مؤشرًا واضحًا على الإدمان، ما يستوجب تدخلًا سريعًا من الأهل والمجتمع للحد من هذه الظاهرة".
ورغم الفوائد العديدة لعالم التكنولوجيا، خصوصًا في مجالات البحث العلمي والتعليم، فإن البياتي ترى أن "الكثير من الأطفال يسيئون استخدام الإنترنت، حيث ينشغلون بمحتويات تافهة لا تساهم في تنمية قدراتهم العقلية، بل على العكس، قد تؤدي إلى تراجع مستوى الذكاء لديهم، وتضعف مهاراتهم التحليلية والتفكيرية. وإذا استمر هذا الإدمان لفترات طويلة، فقد يؤدي إلى خلل معرفي وعقلي يصعب علاجه مستقبلاً".
وترى البياتي، أن "السبب الرئيسي لانتشار الإدمان الإلكتروني بين الأطفال يعود إلى سلوكيات الوالدين، حيث أصبح الآباء أنفسهم يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات، ما يجعل الأطفال يتبعون نهجهم دون وعي"، وهنا يطرح تساؤلًا مهمًا: هل إدمان الوالدين يؤدي إلى انتقال هذه العادة إلى الأبناء؟ والإجابة، وفقًا للبياتي، هي نعم، حيث يتبنى الأطفال السلوكيات التي يرونها في والديهم، مما يزيد من خطر تحولهم إلى مدمنين رقميين منذ الصغر.
إلى جانب ذلك، تحذر البياتي من أن المحتوى الذي يتعرض له الأطفال على الإنترنت قد يؤثر سلبًا على القيم الأخلاقية لديهم، حيث تعرض بعض المواقع إعلانات ومحتويات غير لائقة تشجع على سلوكيات غير أخلاقية، مما يؤدي إلى تشويه المفاهيم التربوية السليمة التي يجب أن يتربى عليها الطفل.
وتشدد على أن الحلول لمشكلة الإدمان الإلكتروني تبدأ بتربية الوالدين قبل الأبناء، إذ لا يمكن فصل سلوكيات الطفل عن بيئته الأسرية. وتقترح وضع ضوابط صارمة لاستخدام الأجهزة الذكية، بحيث لا يتجاوز وقت استخدامها ساعة ونصف يوميًا كحد أقصى، مع توفير بدائل ترفيهية وتعليمية تساهم في تنمية مهارات الأطفال بعيدًا عن الشاشات.
كما توصي بضرورة توعية المجتمع حول المخاطر المترتبة على الاستخدام غير المنظم للتكنولوجيا، من خلال المدارس والإعلام والمؤسسات التربوية، لضمان بيئة رقمية آمنة تسهم في بناء أجيال واعية، قادرة على الاستفادة من التكنولوجيا دون الوقوع في فخ الإدمان الإلكتروني.
بدوره، يرى الناشط في مجال التعليم ومؤسس "المدرسة الحرة"، علي حاكم، أن التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من العملية التعليمية، مؤكدًا أن دمج التكنولوجيا بالتعليم هو خطوة طبيعية في عصر الابتكار والتقدم.
ورغم الفوائد العديدة التي توفرها الأجهزة الذكية، يحذر حاكم خلال حديثه لـ(المدى)، من الاستخدام المفرط لها، خاصة بين الأطفال في مراحلهم المبكرة، حيث يمكن أن يؤثر ذلك سلبًا على نموهم العقلي واللغوي.
ويؤكد على ضرورة مراقبة استخدام الأطفال لهذه الأجهزة، مشيرًا إلى أن غياب التوجيه قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة تؤثر على تطورهم المعرفي والاجتماعي.
وفي سياق البحث عن حلول، يشدد حاكم على أهمية إيجاد طرق فعالة لتوظيف الأدوات الرقمية بشكل مدروس داخل الفصول الدراسية. ويرى أن تطبيقات التعليم عبر الأجهزة اللوحية، مثل "الآيباد"، يمكن أن تسهم في تطوير مهارات الأطفال، إذا تم استخدامها وفق منهجية واضحة تتناسب مع متطلبات العصر الرقمي. كما يؤكد على ضرورة وضع سياسات تعليمية تضمن الاستخدام الأمثل لهذه الوسائل، بحيث تكون أداة للتعلم وليس وسيلة للترفيه العشوائي.
التفاعل مع التكنولوجيا، برأي حاكم، يجب أن يكون موجهًا، حيث يحذر من السماح للأطفال باستخدام الأجهزة الذكية بلا هدف، مثل تصفح منصات الفيديو بطريقة غير مدروسة. وبدلًا من ذلك، يرى أن التكنولوجيا يمكن أن تكون وسيلة لتعزيز التعلم، من خلال الكورسات الرقمية التي تنمي المهارات اللغوية، أو عبر توظيف التطبيقات التفاعلية التي تستبدل الأساليب التقليدية في الكتابة والتعلم.
ويؤكد حاكم أن العالم يشهد تحولًا حاسمًا من الأساليب التعليمية التقليدية إلى الأساليب الرقمية، معتبرًا أن هذا التطور ليس مجرد تغيير في الأدوات، بل هو خطوة جوهرية نحو بناء حياة صحية وصحيحة للأفراد، تنعكس بشكل إيجابي على المجتمع ككل. وفي هذا السياق، يشدد على أهمية وجود سياسات حكومية واضحة تنظم استخدام التكنولوجيا في التعليم، بحيث تحقق الفائدة المرجوة وتسهم في تطوير الأفراد والمجتمعات. فالتكنولوجيا، برغم كل مزاياها، تبقى أداة تحتاج إلى توجيه صحيح لضمان تحقيق أقصى استفادة منها، بعيدًا عن الاستخدام العشوائي الذي قد يؤثر سلبًا على الأجيال القادمة.
كما تواجه المؤسسات التربوية تحديات تتعلق بالاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية على الأطفال والطلاب.
سميرة عباس، التي تعمل في قطاع التربية، تحذر من أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، سواء كانت مملوكة للطفل أو لأفراد الأسرة، أدى إلى انخفاض المستوى العلمي والأخلاقي لدى العديد من الطلاب.
وتقول عباس في حديث لـ(المدى)، أن "هذه الأجهزة لم تقتصر آثارها على الجانب الأكاديمي فقط، بل امتدت لتؤثر على شخصية الأطفال وسلوكياتهم، حيث أصبحوا أكثر انطوائية وعصبية وكآبة".
وتشير إلى أن "الأطفال الذين يقضون فترات طويلة أمام الشاشات يفقدون القدرة على التفاعل مع الآخرين، كما يعانون من تراجع في مهارات التركيز والانتباه، مما ينعكس سلبًا على أدائهم الدراسي وصحتهم النفسية".
ومن بين المشكلات الأخرى التي تطرقت إليها سميرة، انخفاض مستوى النشاط البدني لدى الأطفال الذين يقضون ساعات طويلة في استخدام الأجهزة الإلكترونية، حيث تؤدي قلة الحركة إلى تراجع القدرات الذهنية والعلمية لديهم.
كما أشارت إلى أن "الاستخدام المستمر لهذه الأجهزة، خاصة خلال ساعات الليل، يتسبب في ضعف الذاكرة، قلة التركيز، واضطرابات الشهية، مما يزيد من تأثيراتها السلبية على صحة الأطفال".
وترى عباس، أن "الحل لهذه المشكلة يجب أن يكون متعدد الجوانب، حيث يقع على الأسرة والمدرسة دور كبير في تنظيم استخدام الأطفال لهذه الأجهزة.
فالأهل، وخاصة الأمهات، يجب أن يكونوا أكثر وعيًا بمخاطر ترك الأطفال أمام الشاشات لساعات طويلة، حيث أن هذا السلوك قد يكون ناتجًا عن انشغال الأهل بأعمالهم اليومية، مما يجعل الأجهزة الإلكترونية وسيلة لإلهاء الأطفال دون إدراك العواقب".
أما على مستوى المدارس، فتؤكد سميرة على أهمية التوجيه التربوي الفعال، وذلك من خلال متابعة استخدام الطلاب للأجهزة الإلكترونية، وتحفيزهم على تخصيص وقت كافٍ للدراسة بعيدًا عن الشاشات.
كما تدعو إلى تبني "أساليب تربوية قائمة على مبدأ الثواب والعقاب لتعزيز الانضباط الدراسي لدى الطلاب، وتشجيعهم على الأنشطة التعليمية التقليدية التي تنمي مهاراتهم الفكرية والاجتماعية".
ولا يقتصر الأمر على الأسرة والمدرسة فقط، إذ تؤكد سميرة على "أهمية دور الإعلام في نشر الوعي حول المخاطر النفسية والصحية للاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية". كما تشدد على ضرورة تدخل الجهات الرسمية، مثل وزارة الداخلية، في تنظيم استخدام هذه الأجهزة من خلال حملات توعوية وبرامج تثقيفية، خاصة في ظل انتشار قنوات التواصل الاجتماعي التي قد تؤثر على أخلاقيات الأطفال وسلوكياتهم.
وتؤكد عباس أن "مواجهة هذه المشكلة تتطلب جهدًا تعاونيًا مشتركًا بين الأسرة، المدرسة، الإعلام، والدولة، لضمان تنظيم استخدام الأجهزة الإلكترونية في حياة الأطفال بشكل يحقق التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا ونموهم العقلي والنفسي بشكل صحي وسليم".