حسن الجنابي
في تموز 1991 أعلن رسمياً عن نهاية "معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة" المعروفة باسم "حلف وارشو". كان الحلف قد تأسس في عام 1955 كتحالف للأمن الجماعي لدول الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية الشرقية، بإزاء التحالف الغربي الممثل بحلف شمال الأطلسي المعروف باسم "حلف الناتو" والذي سبق أن تأسس في عام 1949.
تأسس الحلفان في وقت كان العالم يستفيق فيه من جنون، بل توحّش، سياسي وعدواني اجتاح أوربا والعالم، وخلّف دماراً شاملاً، استخدمت فيه القنابل الذرية للمرة الأولى، واشتدت فيه كذلك الصراعات والمواجهات العسكرية والاحتلالات وحروب الاستقلال، وتغيرت فيه خرائط الدول بالعنف غالباً.
بالإعلان عن نهاية حلف وارشو، انتهت فعلياً، ولصالح المعسكر الغربي، مرحلة خطيرة من حياة البشرية سميت بـ "الحرب الباردة" كانت قد استمرت حوالي أربعة عقود، وقد تمكنت بالنتيجة من الاحتفاظ بالنظام الدولي الجديد على شفى الهاوية النووية نتيجة للتوازنات الجديدة.
إثر انهيار حلف وارشو تفككت التجربة السوفيتية وامتدادها الجغرافي المجاور في قلب أوربا، وبالتالي تلاشى بعبع "الخطر الشيوعي"، وتمخض عن دول منهكة ومتصارعة وفقيرة. بالمقابل انتعشت أوربا وتحالفها العابر للمحيط مع الولايات المتحدة، التي أصبحت بدورها قوةً خارج المنافسة عسكرياً واقتصادياً.
كان من المنطقي، إثر انهيار حلف وارشو، أن يتخذ حلف الناتو، الذي نجح بهزيمة الخطر المفترض على أعضائه، خطوات باتجاه تخفيف التوترات وتعزيز الأمن الدولي، فيعلن هو الآخر انتفاء الحاجة الى وجود الحلف بصيغته التي سادت لمدة نصف قرن منذ تأسيسه. كان من شأن ذلك تحويل التركيز الى تعزيز الأوضاع الاقتصادية والتنمية والاستقرار العالمي وتجنب سباق التسلح وحرب النجوم والتجسس وخلافه. لكن هذا المنطق أقرب للبراءة ولا يتماشى مع منعطفات السياسة الدولية، وجنونها واطماع الاحتكارات والصناعات الحربية، ونزعات الهيمنة، بعد ان تداعت وسائل السيطرة الكولونيالية المباشرة وفتحت آفاقاً لقيم السلام والتعايش.
لقد انهار جدار برلين وأفلتت دول وكيانات عديدة من "القبضة السوفيتية" وصارت تبحث عن ترتيبات أمنية وضمانات تبعدها عن مخاوف وأحداث التاريخ المثقل بتجارب مريرة من الصراعات بين الأمم عبر القرون. وبرز حلف الناتو كطرف منتصر كلّي القدرة فاتحاً ذراعيه لأعداء الأمس كي يكونوا حلفاء، لا حبّاً بقوتهم العسكرية كي تضاف الى قدرات الحلف الكبيرة، ولا لكونهم يديرون اقتصاديات متطورة وقوية تضيف للحلف قدرات إضافية، بل بدوافع كراهية ومحاصرة روسيا برغم تغيير نظامها السياسي والاقتصادي. فقد كان الأعضاء الجدد دولاً فقيرة باقتصاد مركزي محطم انتقالي وهامشي، وقدرات عسكرية سوفيتية وعقيدة حرب مختلفة منذ تأسيس تلك الدول حتى دخولها في حلف الناتو ذي التصنيع الحربي الغربي.
التحق العديد من الدول الأعضاء السابقين في حلف وارشو بالحلف الأطلسي، على عكس الاتفاق الذي تم على أساس عدم توسيع حلف الناتو، كنوع من الضمانة حينها للأمن الروسي المنبثق من حطام الاتحاد السوفيتي.
لكن الغرب بسجله الطويل من المناورة والكذب دفع باتجاه الهيمنة الشاملة ومحاصرة روسيا المنهكة، والمرتبكة، والجريحة، فأدخل أعضاء حلف وارشو السابقين في صفوف الناتو برغم انها ما زالت تعاني تبعات التحول السياسي ورخاوة الأنظمة الجديدة والتحول الجذري بالعقيدة والولاءات العسكرية.
أسدل ذلك الأمر ستارة التقسيم الدولي والصراعات على أسس أيديولوجية، في أوربا على وجه الخصوص، والتجأت روسيا نفسها الى نظام سياسي واقتصادي مختلف ابتعدت فيه عن الأسس الاشتراكية للتطوير الاقتصادي متبنياً اقتصاد السوق والمنافسة وتطوير القطاع الخاص، بما يشبه الغرب بالتمام والكمال. بل انها طلبت في مرحلة ما بالسماح لها بدخول الاتحاد الأوربي وحلف الناتو (كفيان شر على ما اعتقد!).
لم يكن باستطاعة روسيا المعزولة التي تصارع من أجل البقاء، منع التحاق أعضاء حلف وارشو السابقين بالناتو بسبب ضعفها وانهيار وسائل هيمنتها وقوتها السابقة، وتعرضها الى مخاطر التقسيم والصراعات. ثم أن التغيير السياسي في روسيا نفسها قد أنهى الصراع الأيديولوجي المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعد هناك مبرر للانقسام الدولي الذي صبغ النصف الثاني من القرن العشرين.
كان توسيع حلف الناتو، وعلى عكس التوقعات، إشارة واضحة الى ان العالم بعد نهاية الحرب الباردة أصبح أكثر سخونة، وأن الأحادية القطبية التي هيمنت على العالم اقتصادياً وعسكرياً، لم يعد يعنيها أمر التذمر والقلق على النظام العالمي القائم على حالة من التوازن. بل تغيرت الأهداف باتجاه الهيمنة الشاملة، وإضعاف دور مجلس الأمن في الحفاظ على السلم العالمي، وبالسعي الحثيث نحو التفرد، واللجوء لإعلان الحروب والعقوبات الانفرادية.
كان الحلفان، وارشو والناتو وحسب وثائق التأسيس، يدعيان أنهما حلفان للأغراض الدفاعية. والغريب هنا هو أن أي منهما لم يدخل حرباً دفاعية. فحلف وارشو استخدم لإطفاء نيران التمرد الداخلي في هنغاريا (1956) وجيكوسلوفاكيا (1968) على سبيل المثال. أما حلف الناتو الذي بقي الى يومنا هذا، أي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على نهاية الحلف الخصم لم يخض حرباً دفاعية واحدة.
أما الحرب الروسية-الأوكرانية فكانت محاولة ادخال أوكرانيا في حلف الناتو أحد أسبابها بدون شك، حتى لو كان هنالك من يعتقد بأن الرئيس الروسي بوتين استخدم الأمر كذريعة. فإن إعطاء الذريعة هو خطيئة سياسية ارتكبها حلف الناتو الذي يحاول اركاع روسيا في فترة صعودها وبهدف إلحاق هزيمة تاريخية ماحقة بها.
ألا يحق للمراقبين أن يسألوا عما جنته أوربا من تفكك الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا مثلاً سوى الحروب في قلب أوربا؟ قد يقبل المرء بحقيقة أن بقاء الدولتين الاتحاديتين بنظامهما السياسي المختلف لم يكن في مصلحة أوربا الغربية، لكن تفكيكهما جلب الحروب والمآسي على أوربا أكثر من ذي قبل، كما أثبت ذلك أيضاً تورط أوربا في الحرب الأوكرانية التي كشف مأزقها موقف دونالد ترامب.
لقد انقلب السحر على الساحر، كما يظهر، إذ أن الرئيس الأمريكي قلب أكثر من طاولة على الأوضاع السائدة في الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً، وبالطبع في ترتيبات حلف الناتو، ومن ذلك تبنيه للسردية الروسية عن الحرب في أوكرانيا.
بهذا يكون الناتو الذي أنشأ عقيدته العسكرية على محاربة الاتحاد السوفيتي سابقاً، وروسيا لاحقاً، قد ظهر عاجزاً ومتفرجاً ويعتقد الكثيرون وأنا منهم بأن صلاحيته انتهت.