TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الاتهامات والضغوط السياسية والتضييقات تطال المجتمع المدني ومعارضي القانون

الاتهامات والضغوط السياسية والتضييقات تطال المجتمع المدني ومعارضي القانون

صفقات سياسية وقوى إقليمية وراء تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي

نشر في: 4 مارس, 2025: 12:03 ص

د. غادة العاملي

شهدت الساحة السياسية في السنوات الاخيرة، نقاشات واسعة اكتسبت طابعا متقاطعاً حول تعديلات قانون الأحوال الشخصية وسط مخاوف من تأثيرها على حقوق المرأة والطفل والأسرة بشكل عام. ورغم الجدل الواسع، فإن هذه التعديلات مرت ضمن صفقات سياسية، سميت بقوانين «السلة»، ما يطرح تساؤلات حول دوافع تمريرها، ومدى تأثير القوى الداخلية والخارجية في صياغتها. وما يثير التساؤل هو تراجع صوت منظمات المجتمع المدني في الدفاع عن هذا القانون مقارنة بالسابق.
بين الجدل والمخاوف
أثار تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 انقساماً حادا في الرأي العام، حيث يرى مؤيدوه أنه يعكس الخصوصيات الدينية للمجتمع، بينما يرى معارضوه أنه يمثل تراجعاً عن المكتسبات الحقوقية للمرأة. ومن بين أبرز التعديلات المثيرة للجدل، السماح بتزويج القاصرات، مما يفتح الباب أمام الزواج المبكر، وايضا سلب حضانة الأم لصالح الأب، وهو ما يعتبره البعض انتهاكاً لحقوق الطفل والأم معاً. حرمان المرأة من الإرث في العقارات، مما يعمق التمييز القانوني والمجتمعي والعرفي ضدها وخلافا للشريعة الإسلامية، كما أن التعديل يمنح رجال الدين سلطة أكبر في عقود الزواج والطلاق، ما يُضعف دور الدولة في الإشراف على الأحوال الشخصية بقانون مشوه عن قانون الأحوال الشخصية الحالي.
النفوذ الخارجي وتعديلات القانون
لاقت هذه التعديلات بعد اعادة طرحها لمرات عدة خلال العشرين سنة المنصرمة منذ سقوط النظام رفضاً واسعاً من منظمات المجتمع، ومن غالبية القوى المدنية في العراق، لكن موقف المنظمات وهذه القوى لم يكن بالقوة والزخم والتمثيل السابق، ولا يخفى ان اسباب كثيرة كانت وراء هذا التوجه، منها تأثير القوى الإقليمية على تعديل القانون. إذ لم يكن الدفع باتجاه التعديلات محلياً فقط، بل شهد ضغوطا من قوى إقليمية لديها مصالح مباشرة أو غير مباشرة في العراق، وسعت كل منها لدعم الجماعات التي تمثل رؤيتها داخل البرلمان. كذلك بعض الجهات ذات النفوذ القوي داخل العراق التي كانت تدفع نحو تعديلات تعزز سلطة رجال الدين على الأحوال الشخصية، بما يتماشى مع نموذجها المجتمعي والديني. وترى هذه الجهات في التعديلات خطوة اخرى لإضعاف الدولة المدنية وتوسيع سلطة مؤسساتها ومرجعياتها على حساب التوجه المدني. في المقابل، هناك قوى إقليمية أخرى تركز أكثر على القضايا الأمنية والاقتصادية، ولا تولي اهتماماً مباشراً للقوانين الاجتماعية، لكنها تدعم أطرافاً سياسية محلية قد يكون لها موقف معارض لهذه التعديلات، إما من منطلقات دينية مختلفة أو كجزء من التنافس الإقليمي ومد الأذرع داخل العراق. اما بعض الفاعلين الإقليميين فينظرون إلى هذه القضية في إطار الإخلال بالتوازنات السياسية داخل العراق، حيث تمكنهم من استخدامها كأداة تفاوضية في ملفات أخرى أكثر أهمية لهم، ولا تعنيهم تبعات هذه التعديات على الاسرة العراقية كنواة للمجتمع.
بعد ان ازدادت القيود على عمل منظمات المجتمع المدني، وأصبح العديد منها معرضا للاتهام بالتبعية لجهات خارجية، مما حد من قدرتها على التحرك، بات الكثير من الناشطين يشعرون أن المعركة محسومة لصالح القوى المؤيدة للتعديلات وان مصير الحديث عنها مجرد تحصيل حاصل، خاصة مع غياب اصوات فاعلة في البرلمان التي من المفترض ان تكون ايجابية تجاه القضايا الحقوقية والقضايا المتعلقة بالأسرة وتنظيم أحوالها، خصوصا بعد تصاعد التأثير المتزايد للخطاب الديني المحافظ ما جعل من الصعب على منظمات المجتمع المدني الدفاع عن القانون دون مواجهة حملات تشويه واسعة. وهذا ما لمسناه من استهداف لشخصيات تصدت لمشروع التعديلات، وكان مصيرها شطب الصفات المهنية عنها بدعاوى كيدية وطرق ملتوية للالتباس بالاتهام.
تمرير قانون الأحوال الشخصية وقانون العفو العام في سلة واحدة
إحدى أبرز الإشكاليات داخل البرلمان كانت تمرير قانون الأحوال الشخصية وقانون العفو العام في صفقة واحدة، ما يكشف طبيعة التخادمات السياسية التي تحكم البرلمان العراقي وآلية التشريع فيه. هذا الأمر يطرح عدة نقاط مهمة منها استغلال القوانين كأوراق تفاوضية بدلاً من مناقشة كل قانون على حدة حيث يتم استخدام الملفات الحساسة كأدوات ضغط ومساومة بين الأحزاب. كذلك تفريغ العملية التشريعية من مضمونها الديمقراطي. كل ذلك تسبب بالمزيد من اضعاف الثقة في البرلمان وأحزابه وتوسيع الفجوة بينها وبين المواطن.
الإعلام وأجنداته و(التريند)
وكان للإعلام العراقي دور كبير في اثارة النقاش حول تعديل قانون الأحوال الشخصية. وبينما عارضت عدد من الوسائل الإعلامية هذه التعديلات، معتبرة إياها تراجعاً عن حقوق المرأة والطفل، قدمت بعض المنصات دعماً كبيرا ومناهضا لطروحات المجتمع المدني استناداً إلى المعتقدات الدينية لكل طائفية. واكدت بعض المنصات في محاولة للتهدئة على أن التعديلات تخص فئة معينة ولا تمس بقية المكونات الاجتماعية، وأنها تهدف إلى تنظيم الأحوال الشخصية وفقاً للمعتقدات الدينية لكل طائفة. وأن التعديلات تتماشى مع أحكام المذهب الجعفري، وتمنح الطائفة الشيعية الحق في اعتماد أحكامها الدينية في مسائل الأحوال الشخصية.. دون التطرق الى ان الإخلال بمبدأ المساواة، يفتح الباب أمام مشكلات قانونية واجتماعية جديدة قد تؤدي إلى مزيد من النزاعات بدلاً من حلها.
ولا ننسى كيف استغلت بعض الشخصيات الإعلامية وصنّاع المحتوى هذا الموضوع للترويج لأنفسهم وكسب المزيد من المتابعين بهدف تصدّر التريند، سواء من خلال تصريحات مثيرة أو تحليلات منحازة تثير تفاعلاً واسعًا. ففي كثير من الأحيان، كان الهدف الحقيقي ليس معالجة موضوع تعديلات القانون المطروحة بجدية، بل تحقيق مكاسب شخصية لصالح القناة او المنصة باستضافة شخصيات جدلية وإشكالية تزيد من فرصة زيادة الظهور أو الحصول على أكبر عدد من المتفاعلين على مواقع التواصل. وقد ادى ذلك إلى تشويش الرأي العام وإبعاد النقاش عن جوهر المشكلة، حيث تحولت القضية من موضوع مجتمعي يستحق النقاش الموضوعي إلى مجرد مادة إعلامية تُستخدم لجذب الانتباه وتحقيق المصالح الشخصية.
الغريب انه بعد إقرار القانون، خَفت الحديث عنه بشكل ملحوظ، حيث تجاهلت العديد من وسائل الإعلام ومنصات التواصل تحليل ما جرى، ولم يتم تسليط الضوء على تداعيات القانون، أو من كان وراء تمريره، أو كيف ستؤثر بنوده على الأفراد والمجتمع بشكل عام. هذا التجاهل يعكس نمطًا متكررًا في تناول القضايا المهمة، حيث يتم استغلالها مؤقتًا لتحقيق مكاسب إعلامية ثم التخلي عنها بمجرد انتهاء موجة الاهتمام الجماهيري او تحقيق (التريند).
إن غياب النقاش المستمر حول القوانين والتشريعات بعد إقرارها يفتح المجال أمام تمرير تغييرات قد تؤثر بشكل جذري على حياة الناس دون رقابة أو محاسبة، مما يستدعي دورًا أكثر مسؤولية من الإعلام في متابعة القضايا التي تؤثر على المجتمع، ليس فقط عند إثارتها، ولكن أيضًا في مرحلة ما بعد التنفيذ، لضمان الشفافية والمساءلة.
ولا بد من القول ان القضية ليست مجرد تعديلات على مشروع قانون، بل ان الأمر تحول الى جزء من صراع النفوذ السياسي داخل العراق. فالقوى الداخلية والإقليمية تسعى لتوظيف هذه القوانين لتعزيز مواقعها، ويبقى المجتمع المدني مطالباً بالتصدي لهذه التعديلات للحفاظ على الطابع المدني للقوانين ومايترتب عليها من معالجات اجتماعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: صيف المالكي

صمت!

العمود الثامن: تزوير ترامب !!

العمود الثامن: مستشار كوميدي!!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

العمود الثامن: ألف حزب وحزب

 علي حسين حتمًا، ستتضمن الطبعة الجديدة من كتاب غينيس للأرقام القياسية رقمًا قياسيًا يضاف للأرقام التي يسجلها هذا الكتاب الشهير منذ أن صدرت طبعته الأولى عام 1955، والرقم الجديد سيحصل عليه العراق بجدارة،...
علي حسين

الاتهامات والضغوط السياسية والتضييقات تطال المجتمع المدني ومعارضي القانون

د. غادة العاملي شهدت الساحة السياسية في السنوات الاخيرة، نقاشات واسعة اكتسبت طابعا متقاطعاً حول تعديلات قانون الأحوال الشخصية وسط مخاوف من تأثيرها على حقوق المرأة والطفل والأسرة بشكل عام. ورغم الجدل الواسع، فإن...
د.غادة العاملي

أولويات واشنطن تجاه الشرق الاوسط للمرحلة القادمة

محمد حسن الساعدي ‏الشعار الذي رُفع في حملة تنصيب ترامب كان "أمريكا أولا" و"أننا لوحدنا" وغيرها من الشعارات التي يحاول فيها ترامب أن يعيد أمريكا إلى خطواتها ونفوذها على العالم خصوصا وإنها تتجه نحو...
محمد حسن الساعدي

الكهرباء.. عنوان فشل الدولة العراقية

أحمد حسن لأكثر من عشرين عامًا، والعراقيون يواجهون أزمة كهربائية لم تعد مجرّد خلل فني أو عثرة إدارية، بل باتت صورة مكثفة لفشل الدولة وعجزها عن امتلاك قرارها السيادي. مع كل صيف، يعود مشهد...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram