علاء المفرجي
يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال السرد. وهناك من يدعي انه عصر الرواية، في بلد كان الشعر فيه على عرش الاولمب.
سؤال طرحناه على عدد من أدبائنا:
الناقد فاضل ثامر
الشعر لا يمكن ان ينفى مع تقادم العصور، فهو صرخة الانسان الاولى في مواجهة الطبيعة والحياة واشكاليات الحياة والموت.. والشعر ارتبط دائما في بداياته بالغناء ولذا لم يكن مصادفة ان يبدأ الشعر غنائيا ولذا فقد سمي بـLyric Poetvy انه تعبير عن حاجة الانسان واحلامه وهواجسه والتواصل هو حجر الاساس في حياة الانسان الاجتماعية عندما يغادر مرحلة الطبيعة الى مرحلة الثقافة او عند الانتقال من النيئ الى المطبوخ حسب تعبير (كلود ليفي ستراوس) ومقولة اليوت تشير الى وجه واحد فقط من تجربة الشعر، وتحديدا مع بواكير حركة الحداثة الشعرية، من خلال التأكيد على الطبيعة الموضوعية للشعر وابتعادها عن التعبير عن المشاعر الذاتية للشاعر، وربما سبق اليوت في هذه النقطة نقاد مدرسة (النقد الجديد) وتحديدا مقولة "المغالطة العاطفية ومقولة "المغالطة القصدية" التي جاء بها الناقدان بيروسيلي ومزات في ثلاثينيات القرن الماضي وربما يقرب ه1ا المفهوم الى حد ما مع مقولة رولاف بارت حول موت المؤلف في التأكيد على الصفة الموضوعية لا الذاتية للتعبير الادبي والفني ومع ذلك فهناك دائما اشكال وضروب متعددة من الشعر منها الموضوعي ومنها الغنائي او الذاتي كما يمكن الحديث عن الشعر الفطري او الشعبي فضلا عن الشعر الدرامي. ولذا يظل الشعر في كافة ضروبه حيا ومنتجا ومتفجرا في ازمات الانسان الوجودية والذاتية العاطفية منها والموضوعية على حد سواء.
وتحضرني هنا قصيدة جبران خليل جبران التي غنتها السيدة (فيروز): "اعطني الناي وغني، فالغنا سر الوجود.
الشاعر هاتف جنابي
لا ضير في ممارسة النثر من قبل الشاعر. تأخر العراق في هذا المضمار جدا. هذه ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون. شخصيا بدأت بممارسة القصيدة والقصة القصيرة في الوقت نفسه. من خلال تجربتي الشخصية وسفري ومتابعتي لاحظت أن عدد الشعراء لم ينحسر في العالم. نشرت مختارات شعرية في أميركا لفيسوافا شيمبورسكا قبل نيلها جائزة نوبل، ترجمها الشاعر والناقد ستانيسواف بارانتشاك وقد طبع منها مائة وعشرون ألف نسخة! مع ذلك، يبقى الشعر محدود الانتشار بحكم طبيعته. الشعر الحقيقي لا يمكن أن يكون جماهيريا. وصفني بروفسور بولندي شاعر وقسيس ذات يوم بمبالغة، في مقالة له عني بأنني "أحد رعاة العزلة"! ما يتعرض له الشعراء يتعلق قبل كل شيء بابتعادهم عن الجماهيرية، وبصعوبات في النشر والكسب المادي، مقارنة بما يمكن أن يجنيه الكاتب من عمله النثري إن كان ناجحا. أكاد أجزم بأن معظم كتاب العالم المهمين قد خرجوا من تحت عباءة الشعر، ولولا الشعر وهوس الإلهام لما وجدت الأغنية والملحمة والمسرحية، والصورة وجزالة القول والبلاغة، والفنتازيا، ولما تطورت اللغة والمخيلة، ولما وجدت الكتب السماوية! ماذا سيبقى من جمال وإعجاز في الكتب السماوية لو أزحنا منها الجانب الشعري؟! أنظر إلى مزامير داوود، وإصحاح الجامعة، وسفر أيوب، وإلى ملحمة كلكامش، وملاحم الإغريق على سبيل المثال. الشعر هو "الدولة العميقة" في الأدب والثقافة وهكذا سيبقى.
الشاعر عبد الرزاق الربيعي
الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيبقى، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين الناس، وفي كل مناحي الحياة وفي كل أسلوب من أساليب التعبير التي يمكن ان تعطينا شعرا أصيلا. فالشاعر المعاصر غالبا ما يكتب بلغة الناس ولا يتردد في مفاجئتنا او إحداث الصدمة بلغته، وموقفه وتفاصيل حياته اليومية. هنا ينشق الشاعر عن نظرية اليوت في ان الشعر يجب أن يبتعد عن كل ما هو شخصي ويميل إلى توثيق المشاعر الإنسانية.
ينطوي السؤال على سؤال ضمني عن حال الشعر نفسه، ومستقبله بعد القفزات التي نشهدها يوميا في التقدم العلمي والتطور التكنولوجي، فهل سيبقى الشعر؟ أن تراه سيتراجع، ثم ينقرض ليخلي الطريق للعلم، علما بأن لا يوجد تعارض بين العلم والأدب، فكلاهما يكمل الآخر، ويبقى الشعراء " أمراء الكلام" كما يقول الفراهيدي، ويبقى الشعر لصيقا بعذابات الإنسان ويعلو كعبه في الأزمات، يقول ابن سلام في معرض تعليقه على قلّة أشعار قريش قبل الإسلام " وإنما يكثر الشعر بالحروب…والذي قلل شعر قريش إنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا " وطموحاته وتجلياته، فهو باق ما بقيت تلك العذابات، والتجليات، لصيقة به، بل بوجوده، يقول اوكتافيو باث " لا خوف على الشّعر من الزّوال، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود على هذه الأرض"، وقد يمرّ بتراجع وفتور، وخور، وضعف في مرحلة من مراحل التاريخ نتيجة لظروف تحكم تلك المراحل، مثلما جرى في عصر صدر الإسلام، لكنه سرعان ما يعود مجدّدا مثل مارد يخرج من قمقم العصور، أما عن الجمهور، فالشعر، بالأصل، ليس فنا جماهيريا، إنه "فن الأقلية الهائلة" كما يقول خوان رامون جيمينز، والجمهور ليس مقياس جودة، فكثير من النصوص الكبيرة القيمة ليست لها جمهور، إلّا بين النخب، مثل شعر أدونيس، والكثير من الشعر المتوسط القيمة، الذي يعتمد على مداعبة عواطف الجمهور، تجد له رواجا لدى جمهور واسع مثل شعر أحمد مطر، قلّة من يمسكون العصا من المنتصف، فيجمعون بين الجمالي والموضوعي مثل شعر محمود درويش..
الجمهور ليس مقياسا سليما، وقبل سنوات بعيدة، كنت أضع معيارا للأفلام التي أنوي مشاهدتها دور العرض السينمائي، فإذا وجدت زحاما على شبّاك التذاكر أنصرف من المكان، إلى دار عرض سينمائي أجد شباك التذاكر خاويا على عروشه، وكثيرا ما يصدق حدسي، فالأفلام الجيّدة، ذات المحتوى لا تنجح جماهيريا، عكس الأفلام التي تخاطب الغرائز، والترويح عن النفس، إلّا في استثناءات تجمع بين الفرجة والمحتوى العالي، فالشعر يرتبط بطبيعة المجتمعات، ففي المجتمعات البسيطة التي تعيش على هامش المدن الكبرى، وفي حالة شبه عزلة عن المحيط الخارجي تجد للشاعر جمهورا..
وفي النهاية، إذا كان الشعر قريبا من قضايا الناس وتطلعاتهم، قريبا من مداركهم، يتعاطى مع الأحداث التي تشغل تفكيرهم، فبالتأكيد سيضمن جمهورا له، إذ يجدون به متنفّسا، وإذا لم يجد جمهورا، فهذا لا يعني أنه شعره غير ذي قيمة.
الناقد ناطق خلوصي
أتفق معك في بعض ما قلته لكن الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث بعدد من مواضعه. تظل تهمة المنبرية تلاحق الشعر على الرغم من أنه ليس كذلك تماماً لاسيما أنه أثبت بانه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد. تختلف الرواية في مواصفاتها عن الشعر فهي فن بصري (أي مقروء) بالدرجة الأولى وهي بالتالي تصلح للتحول إلى اعمال درامية قادرة على الجذب والتاثير بخلاف الشعر.
الروائي فلاح رحيم
أعتقد أن العلاقة بين الرواية والشعر في ثقافتنا العربية والعراقية تحديداً من أهم المعضلات التي تواجهها الرواية. يبقى العراق بكل تاريخه الأدبي بلد الشعر والشعراء الكبار، أسماء الروائيين الكبار تعد على أصابع اليد الواحدة بينما الشعراء لا حصر لهم. هذه الحقيقة مهمة في فهم التحديات التي تواجه الرواية العراقية. هنالك من يرى أن الرواية بحاجة إلى الشعر لتتألق وتحقق وعدها الجمالي الباهر. ودعوى النص المفتوح بدلاً من الصنف الأدبي تنطوي على فتح أبواب الصنف الروائي أمام سائر الأصناف الأخرى وأهمها في حالتنا الشعر. شخصياً أرى أن لغزو الشعر للرواية نتائج سلبية تحدّ من قدرتها على الوفاء بوعدها الفارق. أول الاختلافات بين الشعر والرواية يتصل بطبيعة اللغة المستخدمة في كليهما ووظيفتها. الشعر يضع ثقله في اللغة أساساً، وبحسب جان بول سارتر وميخائيل باختين الشعر لغة وفن لغوي أولاً. تحيل اللغة في الشعر القارئ إلى ذاتها، إلى تراكيبها وأصواتها وجمالياتها فكأنها في نزهة لعرض مفاتنها. للغة شأن مختلف تماماً في الرواية لأنها متورطة في وظيفة إخبارية تقذف بها بعيداً عن ذاتها وتجرح نرجسيتها. عندما نقرأ نصاً روائياً ونجد أنفسنا منصرفين إلى التمتع بجماليات نسيجه اللغوي غير أبهين بمحتوى اللغة نكون أقرب إلى الشعر منا إلى الرواية. لا يعني هذا أن الروائيين لا يتفوقون في أدائهم اللغوي. بينهم أعظم الناثرين في تاريخ الأدب، لكن استخدامهم اللغة يبتعد كثيراً عن افتتان الشعر بذاته. يبقى الروائي مشدوداً إلى مرجع نصه الواقعي يمنحه الأولوية ويتصرف في لغة السرد بما يتفق مع هذا الولاء للمرجع. لقد قطعت الرواية العربية رحلة شاقة من أجل تصفية نفسها من ثقل العبارة الموروثة عن حقبة سيادة الشعر في الثقافة العربية، يكفي أن نقارن لغات المنفلوطي وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس لنتلمس الحركة المطردة باتجاه تأهيل اللغة للعمل لحساب الرواية وحاجاتها.
الشاعر صلاح حسن
لن يكون هناك بديل للشعر فهو يدخل في كل الفنون والآداب وما يقال عن تسيّد الرواية وإزاحة الشعر جانباً هي مقولة وليست رأياً نقدياً خصوصاً في العراق وكل ما في القصة هي أن العراقيين خرجوا من وضع الدكتاتورية ولديهم الكثير من القصص التي لم يستطيعوا كتابتها في زمن الدكتاتور وقد اتيحت لهم الفرصة الآن لكتابة هذه القصص المرعبة التي عاشوها في زمن الدكتاتور. الحرية المفترضة في عراق اليوم تتيح للجميع الكتابة دون رقيب طالما هناك دور نشر تقبض من هؤلاء الكتاب أو الروائيين الذين ينشرون رواية كل ستة أشهر. من بين كل هذه الروايات التي صدرت وهي كثيرة حقا لن تجد روايات مهمة تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة.
الروائي هادي السعدون
أعتقد أن كل الفنون الأدبية واحدها مكمل للآخر، ولا لإزاحة نوع على حساب نوع آخر، الفرق ان لكل زمان عدته وذائقته الخاصة. لا أجد الشعر مضادة لحضور الرواية، بل مكمل لها. اليوم نحن في تداخل فنون مع فنون أخرى، والرواية بحد ذاتها فن الهضم الكلي لكل الموجات الفنية والأدبية، وتجد لها مكاناً وحيزاً ممكناً في متن الرواية أياً كانت. الرواية موجة عصور مطولة وفي كل عصر تهضم وتتقبل وتضم ما تجده في دربها، بل تستفيد منه وتخرج به بحلة جديدة. أعتقد أن الرواية متجددة بتجدد ما تجده من ثقافات مغايرة في كل فترة معينة، وهذا سرها الأكبر. واضيف لولا الشعر والفنون الحكائية، ما استطعنا الحديث اليوم عن نوع أدبي معاصر مبتكر هو الرواية. أجزم أن هناك اكثر من عرش وليس عرشاً واحداً للتسيد والمكانة
الشاعر اديب كمال
إن هذا "الصراع" ما بين الشعر والرواية، في قسم منه كبير، يبدو أمراً طبيعياً. فكلما خطا المجتمع، أيّ مجتمع، خطوات كبيرة وجادة وحقيقية نحو التطور الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي كلما مال مزاج القراء نحو الرواية وانحسرت أمواج الشعر. وحين خطت المجتمعات الغربية خطوات هائلة بهذا الاتجاه منذ الثورة الصناعية كانت النتيجة سيطرة الرواية على الساحة الأدبية وانحسار الشعر شيئاً فشيئاً. والمجتمع العراقي ليس استثناءً بالطبع، لكنّ الشعر سيبقى قوياً في حضوره الروحي وتأثيره الاجتماعي في العراق لزمن طويل، لأنّ المجتمع العراقي يتطوّر اقتصادياً وتكنولوجياً بشكل بطيء وتطوره فوقيّ خارجيّ لا يلامس أعماق المجتمع وتقاليده الثقافية بشكل جدّي.
هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن المبدع الغربي يمارس كتابة أكثر من جنس أدبي فهو يكتب الرواية والشعر والمسرحية والسيناريو السينمائي. فهي كلها عنده وسائل إبداع يُراد منها إطلاق أسئلة الروح الكبرى عن الحياة ومغزاها وأحلامها وتفاصيلها. وهذا هو عين الصواب دون شك. أنا الآن أقرأ، بمتعة عميقة، مجاميع شعرية كتبها أدباء مشاهير من أمثال هرمان هسّه، وغونتر غراس، وبرتولت برشت تألقوا في عالم الرواية أو المسرح تألقاً عظيماً حتى نال هسّه وغراس جائزة نوبل وأصبح برشت أيقونة مسرحية لا تُبارى. أما في مجتمعنا فالأمر مختلف جداً ويدعو إلى الضحك في أحيان كثيرة، فإذا كتب الشاعر رواية فإنّ الدنيا تقوم ولا تقعد حتى يُقال أو قيل إنه بدأ عصر الهجرة إلى الرواية بعد أن فعل ذلك أكثر من شاعر. وإذا كتب روائي مجموعة شعرية قيل له: ما لكَ والشعر؟ هل فشلتَ في الرواية حتى طرقت باب الشعر؟ وهكذا...
ورغم كلّ شيء، أبقى شاعراً متحيزاً للشعر، لأنه الرديف الحقيقي للإنسان في كل زمان ومكان. إنه صوته الداخلي السرّي الصافي العميق. إنه خلاصته وهو يواجه الموت والعبث والعجز والغربة ودوران السنين العجيب، وهو سؤاله الأزليّ الأبديّ!
الشاعرة كولالة نوري
كولالة نوري: لا استطيع التنبئ تماما بما يفكره، لكنني وبحكم الواقع الان استطيع ان اقدّر. (الجمهور) كمعنى غير موجود، هناك قرّاء ويمكن تحديده بعدة الاف فقط، ولا يمكن اعتبار ذلك العدد جمهورا. واعتقد سيبقى فالشعر هو(طريقة واحدة فقط) من طرق التعبير ولا ننسى بان الشعراء (احيانا) يضخمون المشاعر في الفرح او الحزن في الحروب او الرخاء بحكم حساسيتهم، لذلك لا اعتبر الشعر تاريخ للقلب حقا. وبالرجوع الى ما قاله كولنز فاني لا اتفق معه. فكل مواقف الانسان وقصصه حتى حروبه وسلامه، كل تفاصيل الحياة هو تاريخ للقلب البشري. اما ما قاله اليوت عن الابتعاد عن كل شئ شخصي فأيضا لا اتفق معه، الشعر هو رؤية وفلسفة خاصة للشاعر نحو الحياة. فكيف نلغي التجارب والاطلاعات التي كونت رؤيته وفكره ومشاعره. كلما تطور الحياة والعلم والتقنيات اصبح ما يشغل العالم والجماهير اكثر بكثير من الشعر، لان الشعر اضافة الى انه طريقة واحدة للتعبير فانه كان وسيلة لنقل الاحداث عبر الاماكن وبين الشعوب وعبر التاريخ، فهذه لم تعد خاصة بالشعر، فهناك النصوير والفيدو وتقنيات النقل، حتى انك تعرف بأحداث عاطفية وشعرية وانسانية في اقصى قرية في العالم. قد ترجع جماهير الشعر عندما تلغى كل تقنيات التواصل. وهذا احتمال فقط.
أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
الشعر لا يمكن أن يٌنفى مع تقادم العصور

نشر في: 4 مارس, 2025: 12:01 ص