حسن الجنابي
بعد "نجاح" إيلون ماسك "وزير الكفاءة الحكومية" في تجميد عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس أيد)، التي اعتبرها في تصريح لافت "منظمة إجرامية"، انكشفت، لصالحه طبعاً، بعض أفعال تلك الوكالة في أماكن مختلفة من العالم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، برامجها في تمويل أنشطة حكومة زيلينسكي في أوكرانيا.
فقد ظهر أن أكثر من 20% من انفاقها في الخارج كان في أوكرانيا في السنين الأخيرة، إذ موّلتها بما يزيد على 30 مليار دولار خلال ثلاثة أعوام. بل انها موّلت حوالي 90% من وسائل الإعلام الأوكرانية، ومنها بعض البرامج التلفزيونية التي كانت تدعم الرئيس زيلينسكي وساعدته بالفوز بالرئاسة. وبالطبع لا علاقة لتلك الأموال بالتنمية او المساعدات الإنسانية التي تمثل صلب عمل الوكالة، بل هو تحيز واضح لطرف سياسي في دولة أخرى. كذلك كشفت صرفيات على برامج في مناطق مختلفة استهجنها الجمهور الأمريكي، على الأقل المؤيد لترامب، ومنها برامج تحديد النسل مثلاً.
ما يزال ماسك يحظى بدعم مطلق من الرئيس ترامب. بل حتى في حضوره "الاستفزازي" للتقاليد المألوفة في المكتب البيضاوي للرئيس مع أحد أبنائه، قد يكون أوحى بأن مكتب الرئيس بكل رمزيته السياسية وعلويته، لا يختلف عن مكتب الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات الكبيرة.
ويبدو ان الأمور سائرة باتجاه تحويل الهيكلية الحكومية الى كيان مشابه للهيكليات السائدة في الشركات الكبرى، التي يسهل من خلالها مراقبة العمل وتقليل الانفاق وزيادة الكفاءة ومنع الترهل، وما شابه ذلك. ففي الشركات الحديثة، المتعددة الأطراف والجنسيات، يمكن لرؤساء الشركات الإشراف المباشر من أي مكان على فروع شركاتهم في العالم، أولاً بأول، عن طريق البرمجيات المتقدمة. فالأخيرة تحوّل المعطيات والإحصائيات الى دوالّ وخطوط بيانية ورسومات تتيح للرئيس التنفيذي، وفي أي لحظة، معرفة مستويات الأداء، ومقارنة الإنجاز بالخطط الموضوعة، وتشخيص التلكؤ أو الخسارة، أو الأرباح والكلف، أو حجم الموارد المادية والبشرية والموجودات، وكل ما يسمح لهم باتخاذ قرارات فورية بالاستثمار من عدمه، أو بتسريح الأفراد والجماعات أو غلق أي فرع أو مقر للشركة بناءً على تلك المعطيات.
انسجاماً مع نفس المنحى، أرسل من المكتب الحكومي الخاص بالموارد البشرية والتدقيق الداخلي، بإشارة من ماسك، رسالة اليكترونية الى جميع موظفي القطاع الحكومي يطالبهم فيها بإدراج خمس فقرات أو نقاط بمنجزهم الأسبوعي في العمل، أي ما الذي فعله الموظف خلال الأسبوع، ليثبت أنه يستحق مرتبه، معتبراً عدم الرد بمثابة استقالة من الوظيفة.
زاد هذا الأمر في الارتباك والقلق لدى موظفي الحكومة، وصدرت تعليمات من إدارات بعض الوكالات بعدم الرد على تلك الرسالة، ويبدو أن الرئيس ترامب تدخّل لتمديد النافذة الزمنية للرد، دون أن يقلّص ذلك من أمر الإرباك لدى الموظفين، المثقلين بأعباء والتزامات مالية محددة بنيت عليها حياتهم المهنية والأسرية والاجتماعية.
إن تحويل الحكومة الى شركة هي فكرة "مغرية" لهؤلاء الذين يملكون الأموال. لذلك ليس بدون دلالة حضور بعض هؤلاء حفل تنصيب دونالد ترامب في البيت الأبيض. فقد حضر الى جانب إيلون ماسك كل من مارك زوكربيرغ (فيسبوك) وجف بيزوس (أمازون) وغيرهم، ممن قدر مجموع ثرواتهم بترليون و350 مليار دولار!
تخيّل أن نظاماً سياسياً يسمح لشخص بامتلاك ما يقرب من نصف ترليون دولار، وفي وقتٍ يقدّر فيه الحد الأدنى للأجر في الولايات المتحدة بين 7 الى 17 دولار في الساعة حسب الولاية. فعلى أساس أن العمل هو 40 ساعة بالأسبوع، سيتراوح الدخل السنوي بين 15 الى 35 ألف دولار للمواطنين من الفئات الدنيا. أما إيلون ماسك نفسه، الذي سخّر منصة أكس (تويتر) وتبرع بمبلغ 120 مليون دولار لحملة دونالد ترامب، حقق أرباحاً قدّرت بمبلغ 200 مليار دولار خلال شهر واحد. لا بد إذن أن تتلاشى في هذا النظام فكرة العدالة. فبهذه الفجوة في الملكية لم يعد نظام الضريبة على الدخل كافياً لتحقيق العدالة، خاصة إذا تضمن قانون الضريبة ما يسمى ثغرات ضريبية (Loopholes) وهي ثغرات فنية تسمح للأشخاص أو الشركات بتجنب نطاق القانون دون انتهاكه بشكل مباشر.
أتذكر في التسعينات حيث كنت أعمل في أستراليا، بأن السيد كيري باكر، أثرى رجل في استراليا حينها و"إمبراطور" الصحافة، بملكيةٍ تزيد على 6.5 مليار دولار، دفع ضريبة سنوية لذلك العام بلغت 25 ألف دولار فقط، وأنا شخصياً دفعت ضريبتي السنوية بحدود 15 ألف دولار عن دخلي السنوي الذي لم يتجاوز 50 ألف دولار في السنة!
أتذكر أيضاً بأن الحكومة الأسترالية أجرت تحقيقاً شاملاً للتثبت من ذلك الأمر المشين، وجرى استجواب كيري باكر في البرلمان الأسترالي، ووُجد بأنه لم يخالف القانون، بالرغم من تقديم وثائق أشارت الى خسارته 28 مليون دولار في إحدى كازينوهات القمار في لندن في ليلة واحدة!
إن محاولة أثرياء أمريكا، وفي مقدمتهم إيلون ماسك، تحويل الحكومة الى شركة، وبوجود رئيس ينظر الى خارطة العالم كعقارات، أو مساحات للتطوير العقاري واستخراج المعادن، تبدو ممكنة التحقيق. ولكن كلفتها الاجتماعية والسياسية ستكون هائلة.
إن الاحتفاظ بالمتفوقين والمنتجين والأذكياء والأكفاء في ميادين العمل الحكومي هو أمر فائق الضرورة وينطوي على رؤية محددة للعدالة في الوظائف. لكن الناس متفاوتون بالقدرات، وهناك فئات غير محظوظة ستبقى في المراتب الدنيا ماديّاً. وأن من واجبات الحكومة هو مد يد العون لتلك الفئات، وتوسيع شبكات الحماية، وإعادة التأهيل والعمل على تقليص الفوارق وتوفير فرص متكافئة للجميع، وان القطاع الحكومي العام يؤدي جزءاً من تلك المهمة.
إن من شأن تحويل الحكومة الى شركة سيلغي مكاسب المجتمع التي تحققت عبر عشرات بل مئات السنين من التضحيات والعمل النضالي المضني لتحقيق العدالة والمساواة.