TOP

جريدة المدى > عام > العالِم هومي جيْ بابا: لا استسلام مع الشغف

العالِم هومي جيْ بابا: لا استسلام مع الشغف

نشر في: 19 مارس, 2025: 12:03 ص

لطفية الدليمي
القراءة بطبيعتها فعالية منظّمة لها قصدية واضحة. لا نتوقّعُ أن يمضي المرء حياته وهو يقرأ من غير توجّه مخصوص، ولو فعل هذا فسيضيعُ في متاهة فضاء لا نهائي من العناوين في شتّى تلاوين المعرفة.لابد للقراءة المنتجة بالضرورة أن تكون لها قصدية معرفية منذ البدء حتى لا تستحيل خبطاً عشوائياً غير بلا جدوى.
ما أيسر أن يتيه المرء منّا في الغابة الأمازونية في أيّامنا هذه. لستُ أقصدُ غابة الأمازون الإستوائية المطيرة؛ بل غابة الأمازون الرقمية الخاصة بالكتب. كثيرون منّا جرّبوا البحث عن كتاب فيها، وعرفوا كيف أنّ هذه التجربة ستقودهم إلى عناوين شتى كلّ منها سيقود إلى عناوين أخرى في متوالية لانهائية، ولو أنّ أحدنا لم يتّخذ قراراً صارماً بالإكتفاء بكتابه فربما ستقتنصه غواية العناوين وأسماء المؤلّفين. أظنُّ أنّ غابة الكتب الأمازونية الرقمية هي التجسيد الأمثل لمكتبة (بورخس) التي رآها فردوساً لانهائيا من المتعة والشغف.
سأحكي هنا عن تجربة شخصية لي مع غابة الكتب الامازونية. كنتُ قبل بضع سنوات أبحثُ في موضوعات محدّدة في نطاق ما يدعى أدب ما بعد الكولونيالية Post-Colonial Literature، ويعرف المهتمّون بهذا الأدب أنّ هومي بابا Homi Bhabha هو أحد الآباء المؤسسين لهذا الحقل البحثي إلى جانب إدوارد سعيد و غياتري سبيفاك. تطلّبت حاجة بحثية منّي مراجعة شاملة لكتب هومي بابا؛ فدخلت كما هو متوقّعٌ إلى موقع أمازون بحثاً عن كتبه. أسَرَني -بين عناوين عديدة له أو شارك فيها أو مكتوبة عن أعماله- عنوانٌ بدا لي مثيراً لم يكن من مرجعيات كتب بابا التي يشارُ إليها في مصادر أدب ما بعد الكولونيالية. كان عنوان الكتاب بابا وهواجسه المثيرة Bhabha and his Magnificent Obsessions، وكان إسم مؤلّفه يشير إلى مرجعية هندية. حصلتُ على نسخة ألكترونية من الكتاب، ومضيتُ أقرأ فيه، ثمّ عرفتُ بعد بضعة سطور أنني كنتُ أبحثُ عن هومي بابا آخر، تشارك مع هومي بابا منظّر الأدب ما بعد الكولونيالي هنديته؛ لكنّه إختلف معه في نطاقه البحثي ومسيرته المهنية. يحكي الكتاب عن هومي جَيْ. بابا Homi J. Bhabha، الفيزيائي الهندي الذي عاش بين 1909 و 1966، وإليه يعود الفضل في تأسيس البرنامج النووي الهندي ووضع اللبنات الأولى لمعهد البحوث الأساسية الهندي الذي صار عقب وفاته يسمّى (معهد بابا للبحوث الأساسية). ربما أحد الدروس العرضية التي يتعلّمها المرء عند دخوله المتاهة الامازونية هو ضرورة كتابة إسم المؤلف كاملاً مع حرف عائلته الاوسط حتى لا يختلط مع أسماء أخرى مماثلة له.
تعجبني هذه اللعبة السرنديبية التي يأتيك فيها كتابٌ لم تسعَ إليه بل هو ما سعى إليك. يشعر المرء حينها وكأنّ لعبة القدر أرادتك أن تقرأ الكتاب (أو أن تعرف شيئاً عنه وعن كاتبه أو الشخوص المقصودين فيه على الأقلّ)، وهذا ما فعلته مع (بابا وهواجسه المثيرة). قرأتُ مقدّمته وفصليْن منه، فوجدت درسا عظيما في الكفاح من أجل الشغف الذي يتملك حياتنا وسبل التعامل معه.
ولِد هومي جيْ. بابا عام 1909 لأسرة أرستقراطية هندية عالية الثقافة من جهة الأبويْن، وإلى جانب الثقافة كان لها إرثٌ كبير في الصناعة والجيش والمحاماة والعمل المدني الحكومي. كانت عائلة بابا على جانب كبير من الثراء الذي أتاح للأبوين إيلاء إهتمام إستثنائي لولدهما لما عرفاه عنه من ألمعية مبكّرة في الرياضيات والفيزياء والموسيقى والأدب. كان بابا في طفولته شديد الولع بالعلم والقراءة حتّى أنّه لم يكن ينامُ أكثر من ساعتيْن أو ثلاث ساعات في أحسن الأحوال كل يوم.
خافت أمّه عليه وعرضته على أطباء هنود وبريطانيين؛ غير أنّ طبيباً بريطانياً أخبرهم أن ليس من أمر يستوجبُ القلق لأنّ إبنهم كان يمتلك عقلاً بحثياً جباراً يسعى للتعلّم والإستكشاف والمساءلة ولا يقتنع بالإجابات اليسيرة الجاهزة.
عندما أكمل بابا دراسته ما قبل الجامعية بتفوّق واضح كان من البديهي إرسالهُ في بعثة دراسية لإستكمال دراسته الجامعية والعليا في بريطانيا؛ فقد سبق لأبيه أن درس في جامعة أكسفورد، وأراد لإبنه الدراسة في جامعة كامبردج، وهما في هذا الأمر يتشابهان مع نهرو وإبنته إنديرا ولكن بأدوار معكوسة؛ إذ درس نهرو في كامبردج في حين درست إنديرا في أكسفورد. كان أمر الحصول على مقعد دراسي في كامبردج ميسّراً بسبب تفوّق بابا وقدرة أبيه المالية، فضلاً عن أنّ عمّ بابا كان قد سبق له التبرّع بمبلغ مالي قدره 20 ألف باون استرليني للجامعة في عشرينات القرن الماضي، وهو مبلغ عظيم حينذاك لا يقوى عليه أغلب البريطانيين.
هنا حصلت الإشكالية في مسيرة بابا الدراسية. كانت عائلة بابا سليلة إمبراطورية شركة (تاتا) الصناعية الهندية الشهيرة؛ لذا أراد والدُ بابا لإبنه دراسة الهندسة الميكانيكية ليكمل مسيرة إمبراطورية (تاتا) وليكون قائداً مستقبلياً لها؛ غير أنّ هوى بابا وشغفه لم يكن في الهندسة بل في الرياضيات والفيزياء. لم يشأ بابا سلوك طريق المناكفة الخشنة مع والده؛ بل إرتأى تحقيق رغبة والده في دراسة الهندسة الميكانيكية مع عدم وأد حلمه وشغفه بدراسة الفيزياء. أبان بابا عن ما يختزنه في عقله وروحه من شغف في رسالة كتبها لأبيه عام 1928 وهو طالب في كامبردج:
" أقول لك بجدّية كاملة أنّ العمل في قطاع الأعمال أو الهندسة ليس لي. هو غريب بالكامل عن طبيعتي ويتخالف بكيفية أساسية مع مزاجي وآرائي. الفيزياء هي طريقي في الحياة. أعرفُ أنني سأحققُ انجازات عظيمة فيها؛ فكل فرد منّا يستطيعُ فعل أفضل ما لديه، وبلوغ طور الإبهار والفعل الإستثنائي المميّز فقط في ذلك الشيء الذي ينجذب له بشغف عظيم ويؤمن به، تماماً مثلما أفعل أنا تجاه الفيزياء. المرء يتميّزُ في الأمور التي له القدرة على إنجازها، والتي يشعرُ دوماً أنّه وُلِد من أجلها وأنّ مستقبله يكمنُ فيها وأنّ سعادته وسلامه الداخلي لا يتحققُ إلّا معها. لا أرى أن نجاحي في الحياة سيعتمدُ على ما يراه (س) أو (ص) من البشر فيّ، فضلاً عن أنّ الهند ليست بالأرض البور التي لا يمكن ممارسة العلم فيها......" (1)
ثمّ يمضي بابا مسترسلاً في رسالته المثيرة لأبيه:
" أتحرّقُ شوقاً لدراسة الفيزياء، وسأفعل هذا؛ بل يجب عليّ فعله في وقت ما. هو طموحي الأوحد. ليست لي رغبةٌ لأكون رجلاً (ناجحاً) بالمقاييس السائدة أو أن أكون شخصاً قيادياً لشركة صناعية عظيمة. ثمّة أشخاصٌ أذكياء يحبّون هذا الأمر ويتوقون له؛ لذا إمنحهم الفرصة ليكونوا ما يريدون. أكاد أسمعك وأنت تقول عند قراءة سطوري هذه: (لكنّك لستَ سقراط أو آينشتاين)!!. هذا ما قاله والد الموسيقار برليوز لإبنه من قبلُ. عندما كان برليوز شاباً دعاه أبوه بالموسيقي الذي لا تُرتجى منه فائدة. هذا هو حال هكتور برليوز في شبابه؛ لكنّه صار اليوم أحد أعظم عباقرة الموسيقى في العالم فضلاً عن كونه معترفاً به بأنّه الموسيقيّ الفرنسي الأعظم. كيف يمكن لأي إمرئ منّا أن يعلم ما الذي سيفعله إبنه، وفي أيّ وقت، في المستقبل ما لم ينل الإبن فرصة الكشف عن شغفه إلى العلن. ليس من المُجْدي الطرقُ على مسامع بيتهوفن: (يتوجّبُ عليك أن تكون فيزيائياً لأنّ الفيزياء شيء عظيم) وهو لم يبدِ أي قدر من الإهتمام بالفيزياء، وكذا الأمر مع سقراط، لن ينفع القول له كل آن: (كن مهندساً لأنّ الهندسة عمل الإنسان الذكي). هذا امرٌ يتخالف مع طبيعة الأشياء ويتقاطع معها على نحو صارخ. لذا اطلب إليك بكلّ الكياسة الممكنة أن تدعني أدرسُ الفيزياء إلى جانب الهندسة الميكانيكية".(2)
*****
ظلّ هومي بابا وفياً لشغفه، وفي الوقت ذاته حقّق رغبة أبيه. حصل بابا على المراتب الاولى المميزة في الهندسة الميكانيكية والفيزياء معاً، ثم عاد إلى الهند ليحقّق المنجزات العظيمة التي جعلت منه بطلاً قومياً بخاصة في المجال النووي يُنظرُ إليه بإعجاب وتقدير وتحتفي به الهند عالما مرموقا يطلق اسمه اليوم على مؤسسات علمية كبيرة في الهند. نعرف اليوم هومي بابا، الفيزيائي اللامع الذي حقّق منجزات عظيمة للهند. تخيّلوا معي المشهد لو شاء هومي بابا قتل شغفه والإستمرار في عمله مهندساً ميكانيكياً يدير شركة ( تاتا) كانت الهند حينها ستخسر عالما كبيرا، وقبل هذا -بل الأهمّ من هذا- كان هو سيخسر نفسه.
القانون الأساس هو ان يتبع المرء شغفه، ولو قُتل هذا الشغف فستكون خسارته قاسية مدمرة؛ لكن في الوقت ذاته على المرء أن يجد مسالك لتحقيق أهدافه وشغفه وأن لا يركن للخضوع والإستسلام السريع.
قاتِلْ من أجل شغفك: هذا هو الدرس الثمين الذي نتعلّمه من هومي بابا الذي توفّي شاباً في حادث طائرة على قمّة جبال الألب عام 1966. لم يغادر بابا عالمنا بشغف مقتول، وهذا عزاءٌ مقبول لحياته القصيرة.
1، 2: هذه المقاطع المجتزأة من رسالة بابا لوالده مترجمة عن النص الإنكليزي الوارد في الفصل الاوّل من كتاب Bhabha and his Magnificent Obsessions لمؤلّفه G. Venkataraman. الكتاب منشور عام 1994 عن دار نشر Universities Press (India).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

مركز فلكي يتوقع موعد عيد الفطر

تضاربات "الحل" وتعديل قانون الانتخابات تعطلان البرلمان

الأمن الوطني يحكم سيطرته على شبكات التزوير في ثلاث محافظات

مجلس الخدمة يستكمل ملحق الوجبة الثانية لتعيين الشهادات العليا والأوائل

مقتل أكثر من 170 طفلا في غارات غزة الأخيرة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بناية "اليمامة " في بغداد: الفرادة خارج المشهد الكونكريتي

صدر عن المدى: الغابة الضائعة.. ما رواه رافائيل ألبرتي عن حياته الأسبانية

هل وجد مثقفونا في غربتهم الحقيقية فضاءهم الإبداعي ومستقرهم؟

رومان غاري، "الفنان الشامل" و"الكاتب اللغز " في ثلاثية عن سيرته الذاتية

جبران طرزي رائد الأصالة والتجديد

مقالات ذات صلة

العالِم هومي جيْ بابا: لا استسلام مع الشغف
عام

العالِم هومي جيْ بابا: لا استسلام مع الشغف

لطفية الدليمي القراءة بطبيعتها فعالية منظّمة لها قصدية واضحة. لا نتوقّعُ أن يمضي المرء حياته وهو يقرأ من غير توجّه مخصوص، ولو فعل هذا فسيضيعُ في متاهة فضاء لا نهائي من العناوين في شتّى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram