محمد علي الحيدري
يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن تلك التي سادت خلال عقد مضى. في الأيام الأخيرة، عاد الخطاب الأميركي إلى نغمة الدعوة لمحادثات "مباشرة" مع طهران، مدعومًا بتهديدات مبطّنة بالتصعيد العسكري، ورسائل صريحة نقلها وسطاء إقليميون ودوليون إلى القيادة الإيرانية. لكن اللافت في المشهد أن إيران، وعلى خلاف ما كانت تفعله سابقًا، لم تندفع إلى قبول فكرة الجلوس على الطاولة، بل أغلقت الباب بوجه التفاوض المباشر، وأصرت على بقاء أي حوار ضمن قنوات غير مباشرة، وبشروطها.
هذا الموقف الإيراني لا يُقرأ بمنأى عن سياقين متداخلين: الأول، شعور طهران بأن تجربة الاتفاق النووي لعام 2015 — وما تلاه من انسحاب أميركي مفاجئ في 2018 — كشفت هشاشة أي التزام أميركي طويل الأمد، وأفقدت الإيرانيين الثقة بجدوى الرهانات الدبلوماسية مع إدارة تبتزها الاستحقاقات الانتخابية أكثر مما يحكمها منطق الدولة. أما السياق الثاني، فهو تمكين إيران من أدوات النفوذ الإقليمي خلال السنوات الماضية، ونجاحها في نسج تحالفات استراتيجية مع قوى دولية مثل الصين وروسيا، ما عزّز قدرتها على الصمود، وجعلها تتصرف من موقع الندية لا التبعية.
الولايات المتحدة، من جانبها، لا تزال تدور في دوامة "الضغط الأقصى"، التي يبدو أنها تحوّلت من تكتيك مرحلي إلى سياسة شبه ثابتة، رغم ما أظهرته الوقائع من محدودية تأثيرها في تغيير سلوك طهران أو دفعها إلى تنازلات. فالعقوبات، على قسوتها، لم تفلح إلا في تعميق الشقاق، ومفاقمة التصعيد المتبادل، بينما حافظت إيران على خطوط تماس ساخنة في أكثر من ساحة، دون أن تفقد القدرة على المناورة.
مشكلة واشنطن اليوم أنها تريد فرض شروط التفاوض مسبقًا، و"ضمانات" لنتائج التفاوض قبل انطلاقه، بينما تطلب من طهران أن تأتي إلى الطاولة خالية الوفاض. إيران، بدورها، لم تعد تقبل فكرة التفاوض تحت التهديد، وتدرك أن خصمها يواجه مأزقًا سياسيًا داخليًا، ويعيش حالة تردد في خياراته الخارجية. لذا، فهي تلعب على حافة الهاوية، وتلوّح بتفعيل أوراق ضغطها من اليمن إلى لبنان، مرورًا بالعراق، حيث حضورها لم يعد خفيًا أو هامشيًا.
من هنا، فإن السؤال الذي يفرض نفسه ليس عن جدوى التفاوض، بل عن طبيعة التفاوض الممكن. أي حوار لا يخرج من منطق "الغالب والمغلوب"، ولا يتأسس على قاعدة المصالح المتبادلة، لا يمكن أن يثمر سوى جولات أخرى من التصعيد. ما دامت واشنطن تُصر على تحصيل ما عجزت عنه بالحرب الاقتصادية أو بالاغتيالات، فإن طهران ستظل تنظر إلى التفاوض على أنه محاولة لتكريس الهيمنة لا لحفظ التوازن.
ختامًا، يبدو أن الأزمة بين إيران وأميركا ليست مجرد صراع ملفات، بل صراع إرادات. وكل إرادة تحاول كسر الأخرى، دون أن تعترف بأن العالم تغيّر، وأن إدارة المصالح باتت أرجح من إدارة العداء. والسؤال الذي يبقى: أيهما ينتصر في النهاية؟ منطق القوة أم قوة المنطق؟











جميع التعليقات 2
سعد الفضلي
منذ 9 شهور
إيران بدأت تفقد قاعدتها الشعبية غزا مظاهرات ضد حماس الفصائل في العراق تعيش في برج عالي بعيدا عن معاناة الشعب سوريا لم يبقى سوى العلويون اليمن لا اعرف ارتفاع سخونة المواجهات ماذا ستتمخض الوضع الداخلي في إيران قابل الانفجار في أي لحظة
د. م. جواد الشيخ الزبيدي
منذ 8 شهور
أشكركم على هذه الروئيه لأنها اقرب للواقع