محمد علي الحيدري
حين زار رئيس جهاز المخابرات العراقي، حميد الشطري، العاصمة السورية دمشق في الخامس والعشرين من أبريل 2025، كان يحمل ملفًا مزدوجًا: علنيًا أمنيًا واقتصاديًا، ورمزيًا سياسيًا ودينيًا. غير أن عمق الرسائل التي انطوت عليها الزيارة يتجاوز العناوين الرسمية، ليكشف عن لحظة مفصلية في علاقات العراق الإقليمية، وسيناريوهات ما بعد التحولات السورية الجذرية.
في ظاهر الأمر، جاءت الزيارة استكمالًا لمسار بدأ منذ لقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالرئيس السوري أحمد الشرع في الدوحة، ومسار آخر أمنيّ خالص بدأ بزيارة الشطري لدمشق في ديسمبر الماضي. ملفات مشتركة: داعش، الحدود، النفط، اللاجئون، والتنسيق العربي قبل قمة بغداد. لكن ما بين السطور، يتبدّى أن بغداد تختبر دورها كوسيط مستقر في بيئة إقليمية مضطربة، بينما تراقب واشنطن وطهران وأنقرة وتل أبيب هذا الدور بعين الشك أو الأمل، وفقًا لمصالحها.
زيارة الشطري لمرقد السيدة زينب (ع) بعد لقائه بالرئيس السوري لا تخلو من دلالات دقيقة. فالرمزية الطائفية التي وُظّفت في مرحلة الحرب السورية تعود اليوم بلون جديد: لون الدولة، لا الميليشيا. من "زوار العقيدة" إلى "وفد الدولة"، تعيد بغداد رسم حدود علاقتها مع دمشق ما بعد الأسد. أما الشرع، فبصمته الرسمية أمام الكاميرات وظهوره المضبوط بدقة، فهما جزء من معادلة الشرعية التي يحاول بناءها داخليًا وعربيًا. فالعراق، بالنسبة له، ليس فقط شريكًا أمنيًا، بل بوابة عبور إلى القمة العربية القادمة، وربما إلى نظام عربي لا يزال متردّدًا في الاعتراف الكامل بدمشق الجديدة.
أما اقتصاديًا، فإن إعادة إحياء أنبوب النفط العراقي عبر سوريا تمثّل أكثر من مجرد مشروع طاقة: إنها رهينة توازن دقيق بين عودة سوريا إلى منظومة الاقتصاد الإقليمي، وبين شروط الجغرافيا السياسية في ظل الحصار والعقوبات. والسؤال الذي لا تزال إجابته مؤجلة هو: هل تملك بغداد القدرة على لعب دور الجسر دون أن تُستهلك كأداة؟
في قراءة مستقبلية، من المرجّح أن تتحول الزيارة إلى محطة تأسيسية في صياغة معادلة عراقية- سورية جديدة، تتجاوز البعد الأمني نحو تموضع سياسي جديد لكلا الطرفين. فالعراق يريد من سوريا الاستقرار لا الفوضى، لكنه لا يريد أن يكون طرفًا في إعادة تشكيل التحالفات القديمة على أنقاض الثورة والحرب. وسوريا الشرع تريد من العراق الشرعية والدعم، لا الوصاية ولا الحذر البعيد.
وبين هذه الرغبات المتقاطعة، تبقى المنطقة أمام اختبارين: الأول، قدرة بغداد على قيادة مسار عربي جديد يتجاوز الاستقطاب الإيراني-الخليجي؛ والثاني، قدرة دمشق على تجاوز عقد الماضي والانفتاح على محيطها دون الارتهان الكامل لأي محور.
إن زيارة الشطري، بما تحمله من رمزية، تُعدّ مرآة لعراق يحاول التحول من مفعول به إلى فاعل. لكنها أيضاً اختبار مبكر لعلاقة العراق بالواقع السوري الجديد: هل هي شراكة مستقلة أم شراكة مشروطة؟ وهل هي امتداد للنفوذ، أم بداية لعقلنة النفوذ؟
الجواب مرهون بما ستسفر عنه قمة بغداد المرتقبة، وما إذا كانت سوريا ستجلس على طاولتها لا كضيف ثقيل الظل، بل كشريك تعيد صياغة دورها عبره.










