TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: ترنيمة راقصة

باليت المدى: ترنيمة راقصة

نشر في: 28 إبريل, 2025: 12:05 ص

 ستار كاووش

يسألني بعض الأصدقاء حول أفكاري وأنا أكتب بلغتين، حيث لي هذا العمود الذي بين أيديكم، والذي يُنشر في جريدة المدى، وعموداً آخر بالهولندية في مجلة أتيليه. هناك تفاصيل كثيرة تجمع بين الأثنين، مثلما هناك أشياء متعددة تُفَرِّق بينهما. فنحن نتحدث عن ثقافتين متباعدتين بشكل أو آخر، ولغتين لا يربطهما أي رابط، وطريقة تفكير مختلفة نوعاً ما. كذلك هناك الاستجابات التي لا تتشابه من ناحية الإنجذاب لهذا الموضوع أو التعاطف مع تلك الإنتباهة. في العربية يمكنني أن أمضي بعيداً بخيالي محلِّقاَ بين التفاصيل والتشبيهات التي تجعل المقالة تتهادى مثل ترنيمة راقصة. أما الهولندية فهي أقل ليونة ولا تحبذ الشطحات الخيالية كثيراً، وتدخل الى الموضوع مباشرة دون جناس أو طباق أو تشبيهات شعرية مشبوبة بالعاطفة. عموماً يمكنني القول جازماً بأن ليست هناك لغة عظيمة مثل العربية، انها سحر حقيقي وأعجوبة انسانية قوامها الحروف والكلمات، العربية لمن يعرفها أو يُجيدها أو يعتبرها لغته الأم هي أعظم كنز يمكن أن يمتلكه إنسان، ولا إعتقد بأن هناك لغة تقترب من جمال العربية لا من بعيد ولا قريب. واللغة الهولندية رغم صعوبتها لغير المولودين في هولندا، لكنها ايضاً تحمل جمالها الخاص وإيقاعها الذي تُغْنِيه الأمثال الشعبية والأقوال الشائعة التي تشبه حِكَماً صغيرة.
يسألني بعض الأصدقاء الهولنديون ممن يعملون في مجال الرسم والكتابة، بدافع الفضول الصحفي، عن الفروقات التي أراها بين الكتابة لمطبوعين بلغتين. وقد ذكرتُ لهم مثلاً كيف أن التعامل مع جريدة المدى سهلاً وطَيِّعاً ويمضي بسهولة كبيرة، مع ذلك أفتقد الدخول الى بناية جريدة المدى، التي أكتب فيها منذ فترة طويلة، ذلك لأني أعيش بعيداً وأرسل ما أكتبه من خلال الإيميل. أفتقد حقاً إمساك الجريدة بيدي وتصفحها، أشم رائحة حبر الطباعة وأمرر أصابعي ولو مرة واحدة على العمود الذي أكتبه منذ أثنتي عشرة سنة. وبالنسبة للصحافة في هولندا، فأنا أرسل ما أكتبه عن طريق النت أيضاً، وبعدها بفترة أستلم نسخة بي دي أف حيث العمود وشكل الصفحة، بإنتظار ملاحظاتي أو أية تعديلات طارئة أو إضافية، ثم أرسل لهم موافقتي النهائية، ليُدفع العمود الى المطبعة. وفورَ صدور العدد وقبل ان تُرسل المجلة الى المكتبات بيوم واحد، تُرسل لي نسخة بالبريد.
بالنسبة للغة الهولندية، فهي ذاتها عند الكتابة أو حديث الناس، وليس هناك أي إختلاف بين الأثنين، لعدم وجود لغة عامية، عدا تعبيرات صغيرة هنا وهناك، تحتمها بعض الحالات والمواقف. وربما هذا ما دعى زميلة هولندية لسؤالي قبل أيام عن كيفية التنقل بين لغتين مختلفتين، فذكرتُ لها بأني أعتبر نفسي بين هاتين اللغتين أو الثقافتين إن صحت التسمية، كما لو كنتُ شجرة تُمثل الثقافة العربية جذورها الراسخة في الأرض، فيما تُشكل الثقافة الهولندية أغصانها المزهرة. أعجبها التشبيه وقالت بأن ما أكتبه بالهولندية فيه أيقاع خاص ويقترب من ايقاع الشعر، وسألتني إن كان هذا بسبب لغتي العربية التي فرشت رداءها المزخرف على لغتي الهولندية؟ فـوافقتها تماماً على هذا الرأي وشكرتها على إنتباهتها الذكية.
فروقات اللغة وتباين الحياة وحتى إختلاف المناخ وأشياء كثيرة أخرى تعكس ظلالها على الثقافة بشكل عام، وهذا ربما ما جعل الثقافة العربية ثقافة شعر وكلام، فيما الثقافة الهولندية ثقافة رسم ولوحات. من خلال التواصل مع الناس تتضح أيضاً الكثير من الفروقات التي تعكس طريقة تفكير الناس. فالهولندي مباشرٌ وعمليٌ وواضح، فيما العربي غير مباشر ومستتر نوعاً ما خلف بعض التعبيرات. فحين يتصل بك صديق هولندي مثلاً، للحديث عن قضية معينة، فهو بعد بضع كلمات فقط يدخل في صلب الموضوع مباشرة دون تردد أو تأجيل، وحين ينتهي موضوع المكالمة الأساسي وكان الوقت يسمح لكما بالحديث لفترة أطول، عندها يمكن الحديث عن التفاصيل الجانبية المحيطة بالموضوع أو عن اشياء اخرى، بينما عند إتصال صديق عربي فهو يبدأ بتفاصيل بعيدة عن الموضوع حيث يمهد شيئاً فشيئاً بحكايات أو مواقف وقصص صغيرة، وأنت بإنتظار الوصول الى لب الموضوع، كل هذا رغم انكما غالباً ما تعرفان الحكاية وما سيسفر عنه موضوع المكالمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram