إسماعيل نوري الربيعي
اكتسبت الدراسات الآسيوية أهمية بالغة في فهم المجتمعات الإنسانية المعاصرة، لا سيما في ضوء تعمق الروابط العالمية. يُعدّ دراسة العلاقات العربية الآسيوية، ذات الجذور التاريخية الممتدة لقرون، أمرًا بالغ الأهمية لفهم التراث الحضاري والثقافي المشترك الذي يربط هذه المناطق. وتُجسّد العلاقات الخليجية الهندية، على وجه التحديد، تفاعلًا طويل الأمد شكلته الجغرافيا والتجارة والهجرة. وقد امتدت هذه الروابط إلى ما هو أبعد من التاريخ والثقافة لتشمل أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية وتكنولوجية. وفي ظل النظام العالمي المتطور اليوم، حيث تُشكّل مصالح الدول التحالفات بشكل متزايد، تُقدّم هذه الدراسات رؤىً ثاقبة لأطر التعاون تتجاوز الدبلوماسية التقليدية. ويتيح فهم هذه العلاقات متعددة الأوجه للباحثين وصانعي السياسات استكشاف عالم تُحرّك فيه المصالح المشتركة التفاعل أكثر من المواقف السياسية الإيديولوجية أو المؤقتة. وبالتالي، تُعدّ الدراسات الآسيوية أساسية لتحليل الديناميكيات الدولية الحديثة وتعزيز علاقات عالمية تعاونية واعية.
يُعد كتاب الدكتور مفيد الزيدي “العلاقات الخليجية الهندية: الأبعاد والفرص المستقبلية” الصادر عن المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية القطرية، عملاً أكاديمياً شاملاً وحديثاً، يستكشف الديناميكيات المتطورة بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي. بصفته أستاذاً لدراسات الخليج في جامعة بغداد، يمزج الدكتور الزيدي بين الدقة الفكرية والخبرة الإقليمية لتقديم دراسة ثاقبة لهذا الموضوع، مقدماً للقراء تحليلاً مدروساً لكيفية مساهمة التعاون الاستراتيجي بين منطقتين متصلتين تاريخياً في بناء مستقبل أكثر أمناً وازدهاراً في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب بشكل متزايد. يتمحور الكتاب حول خمسة فصول رئيسية، يُسهم كل منها في سرد أوسع يركز على الأهمية المتنامية للهند كقوة عالمية صاعدة، وإمكاناتها في التأثير على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وما بعدها. الفصل الأول، وهو، بالمناسبة، الركيزة الأساسية للكتاب، يتعمق في بروز الهند كقوة عالمية صاعدة. ينقسم الفصل إلى قسمين، يعرض الفصل بتعمق العوامل الداخلية والعالمية التي وضعت الهند على خريطة العالم.
يُحدد الدكتور الزيدي، في الفصل الأول من الكتاب، بعض الخصائص الرئيسة، مثل الموقع الجيوستراتيجي للهند، والعائد الديموغرافي، والتعددية الثقافية، والمرونة الاقتصادية، والتقدم التكنولوجي، كبعض العوامل الرئيسة لصعودها. يُشدد الدكتور الزيدي على موقع الهند في قلب المحيط الهندي، والذي، بالإضافة إلى منحها نفوذًا استراتيجيًا على الطرق البحرية الاستراتيجية، يجعلها أيضًا حليفًا طبيعيًا لدول مجلس التعاون الخليجي التي تسعى إلى تنويع علاقاتها الدبلوماسية الدولية وتعزيز التواصل الإقليمي. يتناول الفصل الثاني الحوكمة المحلية والدبلوماسية العالمية للهند. هنا، يُبرز الدكتور الزيدي المؤسسات الديمقراطية الهندية، ومجتمعها التعددي، والتزامها بحماية تاريخها وتراثها الثقافي المتنوع. تُصاغ كل هذه العوامل ليس فقط كنقاط قوة أساسية، بل كأدوات للقوة الناعمة تُمكّن الهند من اكتساب الثقة وبناء التعاون حول العالم. علاوة على ذلك، ينتقد المؤلف نهج السياسة الخارجية الهندية - تركيزها على عدم الانحياز، والاستقلال الاستراتيجي، ومبدأ الجوار أولاً - باعتباره محوريًا في ترسيخ مكانتها الدولية وتعزيز دبلوماسيتها مع دول الخليج. في ضوء هذا السياق، تستكشف الفصول التالية الأبعاد المتعددة للديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للعلاقات الخليجية الهندية. ويجادل الدكتور الزيدي بأن تعزيز التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي والهند ليس مُفضّلاً فحسب، بل ضروريٌّ أيضاً لبناء استقرار وازدهار طويلي الأمد في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ويطرح فرضية علمية مُقنعة مفادها أن المزيد من التفاعلات الثنائية بين هاتين المنطقتين يُمكن أن يُسهم إسهاماً كبيراً في تحقيق السلام والازدهار والنمو المُتبادل.
لعلّ أهم إسهامات الكتاب تكمن في رؤيته. إ ذ يتصور الدكتور الزيدي أن دول الخليج، إدراكاً منها لديناميكيات القوة العالمية المُتغيّرة، ستبادر إلى التواصل مع الاقتصادات الصاعدة مثل الهند. ويعتقد أن هذا الجهد سيكون فعّالاً في إطالة عمر المنطقة وتحقيق التنمية المُستدامة في ظلّ التغيّر التكنولوجي المُتسارع، وتغيّر المناخ، وعدم اليقين الجيوسياسي. ويُسلّط المؤلف الضوء على العديد من مجالات التعاون المُحتملة بين الجانبين، بما في ذلك تحويل الطاقة، والثورة الرقمية، وتطوير البنية التحتية، والتعليم، ونشاط الجالية الهندية في الخارج. يُركز بشدة على أهمية الجالية الهندية الضخمة في الخليج، باعتبارها رصيدًا ثقافيًا واقتصاديًا. ويؤدي هذا المجتمع، الذي يضم ملايين المهاجرين، دورًا محوريًا في التحويلات المالية، وأسواق العمل، فضلًا عن الانسجام الاجتماعي، مما يعزز الترابط بين المنطقتين. علاوة على ذلك، يتسم تناول الدكتور الزيدي للتعاون في مجال الطاقة برؤية ثاقبة. فمع تحول الخليج الكبير نحو الطاقة المتجددة واقتصاد ما بعد النفط، وسعي الهند جاهدةً لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة بشكل مستدام، فإن إمكانيات إقامة مشاريع مشتركة في تقنيات الطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، وإدارة الكربون هائلة. ويشير الكتاب إلى أن مثل هذه الشراكات يمكن أن تُشكل نموذجًا للتعاون بين بلدان الجنوب في القرن الحادي والعشرين. مع أن الكتاب يحمل في طياته تفاؤلًا عامًا، إلا أنه لا يغض الطرف عن بعض المشاكل. فقد ذُكرت بإيجاز الإجراءات البيروقراطية، وقيود التأشيرات، وحواجز الاستثمار، وحتى الهفوات الدبلوماسية العرضية. ومع ذلك، يرى الدكتور الزيدي أن هذه العوائق تُذلل بفضل الحوار المستمر والتعاون المؤسسي وبناء رؤية توافقية.
ما يميز كتاب “العلاقات الخليجية الهندية: الأبعاد والفرص المستقبلية” عن غيره من الدراسات التي تتناول هذا الموضوع هو أنه عمل متعدد التخصصات ومتكامل. يستند الكتاب إلى أسس العلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ ونظرية العلاقات الدولية، ويقدم رؤية شاملة لكيفية تأثير التعاون الاستراتيجي بين الهند والخليج على نموذج العلاقات - ليس على الصعيد الثنائي فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والعالمي أيضًا. في الختام، يُعدّ عمل الدكتور مفيد الزيدي مساهمةً أساسيةً في مجال دراسات الخليج والجغرافيا السياسية لجنوب آسيا. وهو كتابٌ لا غنى عنه لصانعي السياسات والباحثين والمحللين المهتمين بفهم الملامح المتطورة للعلاقات الهندية الخليجية. من خلال تأطير صعود الهند في سياق التعاون الإقليمي والمصير المشترك، لا يرسم الكتاب مسارًا للمضي قدمًا فحسب، بل يُلهم أيضًا الأمل في مستقبلٍ قوامه الشراكة والتقدم والسلام. بأسلوبه الموجز، وتحليله المتعمق، واستشرافه الثاقب، يُمثل كتاب “العلاقات الخليجية الهندية: الأبعاد والفرص المستقبلية” قصيدةً تُشيد بقوة الرؤية الاستراتيجية والوعد الدائم بالتعاون الإقليمي في خضم عالمٍ متغير.










