TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سياسة ترمب في خفض تمويل الأبحاث العلمية: بين الهستيريا والضرورة

سياسة ترمب في خفض تمويل الأبحاث العلمية: بين الهستيريا والضرورة

نشر في: 6 مايو, 2025: 12:03 ص

أحمد عباس محسن

اثارت قرارات الإدارة الامريكية بشأن تخفيض تمويل الابحاث العلمية وما رافقها تصريحات بشأن التنوع والإنصاف صدمةً في نظام التعليم العالي الأمريكي الذي طالما مثل موطن متنوع للمواهب الفكرية من جميع أنحاء العالم. عكست هذه القرارات مساعي إدارة ترمب لخفض الإنفاق لبعض التخصصات وتقييد مجالات الدراسة التي تستحق الحصول على تمويل حكومي على حد زعمهم.
وخلافا لتقرير حالة العلوم في أمريكا لعام ٢٠٢٣، الصادر عن لجنة عمل العلوم والتكنولوجيا، والذي شدد على ضرورة زيادة الدعم الفيدرالي ماليا للعلوم بشكل كبير حيث استند هذا التقرير إلى استطلاعات رأي شملت الجمهوريين والديمقراطيين بالتساوي، والتي أظهرت اعتقادًا بأن العلم يعزز الاقتصاد والأمن القومي. اثار التقرير ايضا قلقًا من تفوق الصين في الإنفاق على الابحاث العلمية مما قد يُؤدي إلى تخلي الولايات المتحدة عن ميزتها التنافسية العالمية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي.
في سياق متصل يعتقد أكثر من 75% من المشاركين في الاستطلاع أن الولايات المتحدة سوف تخسر أو خسرت بالفعل المنافسة الحاسمة. وترتفع هذه النسبة بين العاملين في الرعاية الصحية والجيش والأمن القومي، بينما يرى العاملون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أن مكانة الولايات المتحدة تتراجع ويتوقع 60% أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة في هذا المجال خلال خمس سنوات.
من المتوقع أن تكون عواقب تخفيض تمويل مشاريع العلوم والصحة وخيمة؛ فالبحث العلمي لا يدعم الاقتصاد فحسب، بل هو أساس التفوق التكنولوجي الأمريكي، وهو تفوق يعتمد بشكل كبير على الأبحاث الممولة اتحاديًا، رغم إغفال ذلك غالبًا. ربما، قد نشهد كما لجأ العلماء من الدول الشمولية تاريخياً إلى الجامعات الأمريكية، قد يضطر العلماء الأمريكيون مستقبلا للبحث عن ملاذ خارج اسوار الولايات المتحدة الامريكية.
في الثالث من نوفمبر 2021، ألقى جي دي فانس، مرشح مجلس الشيوخ الأمريكي وقتها ونائب الرئيس الحالي، كلمة رئيسية في المؤتمر الوطني في ولاية أوهايو بعنوان “الجامعات هي العدو”، مقتبسًا عن ريتشارد نيكسون قوله: “الأساتذة هم العدو”. في الواقع، قال نيكسون هذه الكلمات لمستشاره للأمن القومي آنذاك، هنري كيسنجر، محذرًا إياه بلهجة أكاديمية: “اكتب ذلك على السبورة ١٠٠ مرة ولا تنساه أبدًا”. ومن المفارقات أن كيسنجر، اشتهر أكاديميًا بكتاباته عن مترنيخ، المستشار النمساوي المحافظ الذي لم يكن يحب الأساتذة أيضًا.
شكوى فانس مرتبطة بأن الجامعات تتلقى “مئات المليارات من أموال دافعي الضرائب” لتعليم على حد وصفه بأن “أمريكا أمة شريرة وعنصرية”، وترسيخ هذا المفهوم في المدارس. ويرفض فانس ايضا تمويل المؤسسات التي تدرس “نظرية العرق النقدية أو أيديولوجية الجندر المتطرفة”، مطالباً بتقديم “سرد وطني صادق للتاريخ الأمريكي” بدلاً من ذلك.
محاولة فانس لم تكن الاولى على الاطلاق, فقد تم توظيف محاكمة وإعدام سقراط في أثينا عام 399 ق.م كأداة سياسية بحجة إفساد الشباب والسخرية من الآلهة. في عام ١٨٢٠، اعتبر مترنيخ أن ميل المتعلمين للتشكيك في السلطة، هو الشر الأكبر في عصره. ورأى أن المتغطرسين وقصد بهم العلماء يفتقرون للإيمان، بعكس العمال العاديين المشغولين بأمور حياتهم, وانتقد تحديدًا العلماء الحقيقيين ورجال الأدب والمحامين والمسؤولين عن “التعليم العام».
بالعموم أثار قرار التخفيض سؤالاً منطقياً: لماذا يتم استهداف الأكاديميين او العلماء بين الحين والاخر من قبل صناع القرار عند الشروع في محاولة تغيير او اصلاح؟ وليس بغريب ان الجواب الدقيق على هذا السؤال: ان معظم الأبحاث الأكاديمية العلمية محصورة في نطاق ضيق من المتخصصين، والأكاديميين عادة يكونون غير نمطيين في مهنتهم. بالتالي العلماء هدف سهل وكبش فداء مثالي, فعملهم غير مفهوم خارج الأوساط الأكاديمية، ويسهل تصويرهم بمنأى عن الواقع، والأهم أنهم يفتقرون إلى القوة الإعلامية للدفاع عن أنفسهم وعن افكارهم.
مؤخرًا، أبدى الرئيس دونالد ترمب رغبته في استهداف تمويل الجامعات بشكل مباشر, بدعوة ان الهدف الرئيسي هو خفض التكاليف والمساعدة في معالجة العجز المالي للحكومة. لذا، التخفيض مطلوب خاصة في ما يتعلق بميزانية المواد “غير الأساسية”. بالتاكيد لا يختلف اثنان بأن العجز المالي مشكلة بالغة الأهمية، وأن خفض التكاليف يُساعد في حلها. ولكن يبقى التسأل هنا, ما نوع الابحاث والمنح التي يجب تصنيفها كغير أساسية بدلًا من البحث الطبي او العلمي؟
تعهدت الادارة ايضا بسحب الأموال الفيدرالية من الجامعات التي تتحدى أجندتها في قضايا تشمل برامج التنوع والمساواة والشمول، ومشاركة الرياضيين المتحولين جنسيًا في الرياضات النسائية، واحتجاجات الطلاب التي يعتبرها “غير قانونية.
كنتيجة لذلك, أعلنت الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة عن تجميد التوظيف، نتيجة حالة عدم اليقين المالي الجديدة، في ظل تهديد إدارة ترمب بأجراء تخفيضات واسعة في العقود الفيدرالية ومنح البحث.
البداية
في فبراير 2025، أعلنت الإدارة عن البدء بتخفيضات كبيرة في منح المعاهد الوطنية للصحة للمؤسسات البحثية، مما سوف يؤدي الى تقليص تمويل بعض الجامعات بأكثر من 100 مليون دولار. ونتيجة لذلك، أوقفت بعض الجامعات مشاريعها، إلا أن هذه التخفيضات تأجلت مؤقتًا بسبب طعن قضائي.
في السابع من مارس، جمدت الإدارة 400 مليون دولار لجامعة كولومبيا بسبب عدم مكافحتها معاداة السامية في الحرم الجامعي على حد زعمها. وفي وقت لاحق وفي سياق متصل، حذرت وزارة التعليم 60 كلية أخرى من أنها قد تفقد التمويل الفدرالي إذا لم توفر بيئة آمنة للطلاب اليهود. بلا شك مثل جوهر هذا القرار يحد بشكل كبير من حرية التعبير والآراء والتي لا تنسجم مع أهداف الادارة. في بيان، صرّح رئيس جامعة هارفارد بضرورة تعليقً توظيف الموظفين وأعضاء هيئة التدريس مؤقتًا في جميع أنحاء الجامعة لغرض الحفاظ على المرونة المالية ريثما يتم فهم كيف ستتبلور التغييرات في السياسة الفيدرالية.
ذكرت تريشيا سيريو، عميدة جامعة واشنطن، في مدونتها الرسمية، أنها تتفهم كيف يمكن لحالة عدم اليقين الحالية أن “تثير التوتر والقلق”. حيث كتبت: “من خلال الادخار الاستباقي والتخطيط المدروس، سنكون مستعدين بشكل أفضل لإدارة أي تخفيضات تمويلية مستقبلية وحماية مهمتنا في خدمة الصالح العام”. أشار ايضا رئيس جامعة إيموري ، غريغوري فينفز، إلى ضرورة “اتخاذ تدابير حكيمة” تحسبًا لاضطرابات مالية محتملة.
وصف تيد ميتشل، رئيس المجلس الأمريكي للتعليم، قرار إدارة ترمب بالأحادي والمضلل نتيجة تخفيض ووضع سقف لمعدل التكلفة غير المباشرة للأبحاث الممولة من المعاهد الوطنية للصحة لانه يقوض شراكة استمرت عقودًا ضمنت ريادة الولايات المتحدة العالمية في الأبحاث الطبية ، وحفزت الابتكار، وعززت الاقتصاد، ووفرت وظائف جيدة الأجر، وأثرت الأجيال المتعاقبة من الباحثين والعلماء.
ورغم ان أن مثل هذه القرارات على التعليم العالي الأمريكي ليست وليدة الصدفة، يظهر”مشروع ٢٠٢٥ “ لترمب- فانس رؤيةً مُثيرة للقلق بهدف السيطرة الفكرية على الأفكار والغاء الاستقلالية في الكليات والجامعات الأمريكية. وبما لا يدع مجالا للشك,سيُعيد مشروع 2025 عقودًا من التقدم في مجال التعليم العالي الامريكي الى الوراء، وقد يلغي وزارة التعليم بالكامل اذا ما دخل حيز التنفيذ.
مخاوف وقلق
يتنامى عند القيادات العليا في الجامعات الامريكية قلق كبير وحالة من عدم اليقين، ليس فقط بسبب نية التخفيض في منح الأبحاث العلمية، بل أيضاً بسبب تأثير التخفيضات الفيدرالية المحتملة في برنامج ميديكيد وهو برنامج فيدرالي، يساعد الأشخاص ذوي الدخل والموارد المحدودة في تسديد النفقات الطبية وتكاليف الرعاية الصحية، مما قد يجبر الولايات على تعويض هذا النقص من خلال أموال الضرائب المحلية المخصصة للجامعات.
رغم وصف السيناتور سوزان كولينز من ولاية مين القرار بأنه “سيئ”، معربةً عن قلق مؤسسات مين البحثية من أن التخفيضات ستكون “مدمرة” وتعرقل تقدم البحوث الطبية الحيوية وتتسبب بفقدان الوظائف، انتقد مسؤولو إدارة ترمب ما وصفوه “بالهستيريا “ المحيطة بتخفيضات التمويل الفيدرالي من قبل جهات سياسية وطبية وقانونية ، معتبرين التغييرات ضرورية لخفض الإنفاق. وصرح المتحدث باسم البيت الأبيض، كوش ديساي، بأن الإدارة ملتزمة بتقليص الهدر والاحتيال وسوء الإدارة داخل الحكومة، مع إعطاء الأولوية لاحتياجات المواطنين.
يُعد البحث العلمي في مجلات العلوم والطب والتكنولجيا مصدر فخر للولايات المتحدة الامريكية طيلة العقود الماضية. ومع ذلك، تثير اجراءات الرئيس ترمب الأخيرة قلقًا واسعًا في الأوساط العلمية والأكاديمية بشأن تأثيرها المحتمل طويل الأمد على الاكتشافات العلمية. ورغم استعداد الجامعات في وقت سابق لمواجهة تحديات محتملة في ظل ولاية ثانية لترمب كزيادة الضريبة الجامعية، الا ان قرارات الإدارة الحالية اضافت حالة من الغموض وعدم اليقين. إن تقليص تمويل الابحاث العلمية والطبية ليس خطأً بالضرورة، لكن تطبيقه دون تقييم تأثيره على مستقبل العلم والمعرفة في امريكا قد يزيح الريادة الامركيية من مكانتها المعتادة. بلا شك, هذا القرار يمتاز بكونه قصير النظر وخطر، وبلا شك سيحتفي به خصوم الولايات المتحدة الامريكية كونه تنازلاً ضمنيا عن ريادتها العلمية، وسيترك اثارا سلبًية على التنافسية وتنمية الكفاءات الأمريكية وقد يفتح فرصًا هائلة لبلدان في أوروبا والصين لتولي زمام المبادرة.
بالاضافة الى ذلك, ان مشكلة ترمب الحقيقية تكمن في تعاطيه مع البحث العلمي والطبي كبرنامج حكومي دون الاستناد إلى أي فهم علمي منهجي لطبيعة العمل العلمي. هذا القصور يعتبر مصدر قلق بالغ ومتنامي بان الولايات المتحدة الامريكية ستصبح في الافق القريب غير ذات صلة في مجال البحث العلمي على نطاق واسع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram