بغداد – تبارك عبد المجيد
في ظل غياب الرؤية الاقتصادية والتخطيط المؤسسي السليم، يشهد العراق موجات متكررة من التعيينات الحكومية التي تُطلق دون دراسة دقيقة لحاجات الوزارات أو الأولويات التنموية، ما أدى إلى تفاقم ظاهرة البطالة المقنعة داخل الجهاز الإداري للدولة. وبينما تتزايد أعداد الدرجات الوظيفية المعلنة، تستمر المؤسسات الإنتاجية في المعاناة من نقص حاد في الكوادر المؤهلة، في مقابل تخمة عددية في الدوائر الإدارية والأمنية.
خبراء الاقتصاد حذروا من استمرار هذا النهج، القائم على امتصاص البطالة الظاهرة عبر وظائف شكلية، يعمّق من اختلال سوق العمل، ويثقل كاهل الموازنة العامة التي يُستنزف معظمها في الرواتب والمخصصات، دون أي مردود إنتاجي حقيقي.
أعلن مجلس الخدمة العامة الاتحادي خلال شهر نيسان، عزمه رفع تقرير مفصل إلى مجلس الوزراء بشأن توظيف الخريجين الأوائل وحملة الشهادات العليا، تمهيدا لإطلاق "كودات" المرحلة الثالثة التي تتضمن 8,000 درجة وظيفية جديدة.
وذكر المتحدث الرسمي باسم المجلس أن هذه الدرجات الوظيفية تم تحديدها وتوزيعها على المؤسسات وفقًا لاحتياجات وردت من دوائر الدولة، وبدعم مباشر من رئيس مجلس الوزراء، مشيرًا إلى أن التقرير سيقدم إلى مكتب رئيس الوزراء والأمانة العامة لمجلس الوزراء لاستحصال الموافقات النهائية.
وخلال عام 2025، أطلقت الحكومة عدة وجبات تعيينات، تركزت على خريجي التخصصات الطبية والصحية، بالإضافة إلى الخريجين الأوائل وحملة الشهادات العليا. وشملت أبرز الوجبات أكثر من 28,000 درجة وظيفية في وزارة الصحة ضمن قانون الموازنة، بينما تضمنت الوجبة الثانية نحو 6,300 درجة إضافية جاءت نتيجة لحركة الملاك في الوزارة وبعض الدوائر الأخرى. كما أعلن المجلس عن إنجاز 98 في المئة من ملف تعيينات ملحق الوجبة الثانية الخاصة بحملة الشهادات والخريجين الأوائل، وصادق خلال جلسة طارئة بتاريخ 30 حزيران 2024 على تعيين أكثر من 850 شخصا مشمولين بقانوني تشغيل الخريجين الأوائل رقم (67) لسنة 2017، وحملة الشهادات العليا رقم (59) لسنة 2017. إضافةً إلى ذلك، تم توظيف أكثر من 650 من حملة شهادة الماجستير على ملاك وزارات وهيئات ومحافظات مختلفة ضمن السياق نفسه. في تحليل اقتصادي لواقع التوظيف وسوق العمل في العراق، أشار الخبير حسنين تحسين إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في سوء توزيع الحاجة الفعلية للكوادر داخل الوزارات، وهو خلل هيكلي تراكم عبر سنوات طويلة. وأوضح أن نسبة كبيرة من العاملين في القطاع العام تتجاوز 50 في المئة، ينتمون إلى الأجهزة الأمنية، وهي وجهة اختارها كثيرون سعياً وراء الاستقرار المالي، لا انطلاقاً من الحاجة الفعلية أو التخصص المهني. في المقابل، تعاني الوزارات الإنتاجية، وعلى رأسها القطاعات الصناعية والزراعية، من نقص حاد في الكوادر، ما يُضعف قدرتها على النهوض بمهامها التنموية. ويرى تحسين أن هذا الخلل نابع من إهمال هذه القطاعات منذ عام 2003، مما فاقم من اختلال التوازن في سوق العمل العام. ويصف تحسين لـ "المدى"، السوق العراقي بأنه يعيش حالة من "الفوضى"، حيث تتزايد نسب البطالة بشكل مقلق، في الوقت ذاته الذي ترزح فيه بعض المؤسسات تحت وطأة "البطالة المقنعة"، حيث يشغل العديد من الموظفين مواقع لا تتطلب وجودهم فعلياً أو لا تسهم في زيادة الإنتاج. ويشدد المحلل على أن إطلاق درجات وظيفية جديدة أو إلغاء أخرى لن يكون الحل الناجع، بل المطلوب هو إعادة نظر شاملة في توزيع الموارد البشرية، بما يضمن استثمار الطاقات في أماكنها الصحيحة، ويعيد التوازن إلى سوق العمل العراقي بالتوازي مع ما طرحه المحلل الاقتصادي حسنين تحسين حول الخلل العميق في توزيع الكوادر داخل مؤسسات الدولة، يتحدث دكتور في الاقتصاد، نوار السعدي ليكمل الصورة ويوضح الجانب الأوسع من الأزمة، والمتمثل في البطالة المقنعة التي باتت سمة بارزة في بنية الاقتصاد العراقي، لاسيما في القطاع الحكومي.
يشير السعدي لـ "المدى"، إلى أن "ما يحدث ليس مجرد خلل إداري عابر، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الاقتصادية غير المستدامة، التي اعتمدت التوظيف الحكومي كحل سريع لامتصاص البطالة الظاهرة، دون النظر إلى الحاجة الفعلية للمؤسسات أو القيمة المضافة للموظفين". ويضرب السعدي مثلاً بالتعيينات المرتقبة لـ8000 درجة وظيفية جديدة، والتي يرى أنها استمرار لنهج مكرس منذ سنوات، يسعى لإرضاء الشارع دون معالجة حقيقية لجذور المشكلة.
في السياق نفسه، يتقاطع رأي السعدي مع تحسين في أن الوزارات الإنتاجية تُركت تعاني من عجز شديد، بينما تغرق مؤسسات إدارية وأمنية بأعداد كبيرة من الموظفين، في ظل غياب خطط لإعادة التوزيع أو تحسين الكفاءة المؤسسية. ويضيف السعدي بعداً آخر للأزمة، حين يتحدث عن الثقافة المجتمعية التي تنظر إلى الوظيفة الحكومية كضمان اجتماعي :"ما زاد من عدد العاملين غير الفاعلين، والذين باتوا عبئاً على الموازنة العامة التي تُستهلك أكثر من 75 في المئة منها في الرواتب والمخصصات".
ويقدم السعدي شرحاً لأسباب هذه الإشكالية المركبة، بدءاً من استخدام التعيينات لأغراض سياسية وشعبوية، إلى غياب الرؤية الاقتصادية، وضعف النظام التعليمي الذي لا يواكب احتياجات السوق. ويؤكد أن تجاوز هذه المرحلة يتطلب حلولاً جذرية تبدأ بإعادة هيكلة الجهاز الإداري، وإطلاق مبادرات واقعية لدعم القطاع الخاص، وتوجيه النظام التعليمي نحو المهارات والمجالات التقنية والمهنية المطلوبة فعلياً. من جانبه ذكر النائب أسامة البدري أن العديد من الجهات السياسية والأحزاب ما زالت تستغل حاجة الشباب للوظائف، خصوصا قبيل كل دورة انتخابية، سواء كانت برلمانية أو محلية، في محاولة لاستمالة أصواتهم وشراء ولائهم.
وأضاف البدري في حديث لـ "المدى"، أن "الشباب العراقي اليوم أصبح أكثر وعياً، ولم يعد يتأثر بتلك الوعود أو الأحاديث المتكررة التي تُطلق لأغراض انتخابية، دون أن تنعكس على أرض الواقع". وأشار إلى أن ملف التوظيف في العراق ما يزال يعاني من غياب التخطيط الحقيقي والرؤية الاقتصادية السليمة، موضحاً أن "السياسات الحكومية بهذا الشأن يجب أن تتماشى مع متطلبات السوق وحجم القوى العاملة المتوفرة، بدل الاعتماد على الحلول الوقتية والوظائف الشكلية".










