ابراهيم البليهي
حُبُّه الأول هو المعرفة!! سوف يفاجأ الكثيرون من قصة هذا الفيلسوف الشهير والفريد إنه فريدٌ بمواقفه الفردية الصلدة وبفلسفته العميقة وبإنتاجه الغزير وباهتماماته المتنوعة وبكفاياته الفائقة وبتعدد مجالات نشاطه ….
إنها قصة تستوجب التأمل العميق في أساليب التعليم المتبعة في كل العالم كما تستوجب إعادة النظر في رؤيتنا للتعليم وتقييمنا لنتائجه
إن كل مهتم لابد أنه قرأ للفيلسوف البريطاني برتراند راسل أو قرأ عنه أو سمع به فمؤلفاته المترجمة للغة العربية تملأ عددًا من الرفوف فقد كان عبقريا وأنتج في مجالات عديدة ولمكانته الاستثنائية التي لا يختلف الناس حولها فقد نال جائزة نوبل في الأدب مع أنه في الأصل عالم رياضيات وفيلسوف لكن تعدد اهتماماته وتنوع إنتاجه جعله ينال جائزة نوبل للأدب رغم أنه لا يَعتبِر نفسه أديبا ….
ما يهمني من هذا العبقري أنه لم يلتحق بالتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي وإنما تعلم في المنزل القراءة والكتابة وجاءه معلمُ رياضيات خصوصي فهو قد علَّم نفسه بنفسه …..
لم يمر بالتعليم العام و إنما وثب رأسًا إلى جامعة كامبريح ورغم أنهم تعاملوا معه بوصفه عبقريا إلا أنه كان يصاب بالضجر ويرى أن محاضرات الأساتذة مضيعة للوقت وقد اشترك مع أستاذه الفيلسوف وايتهد في تأليف أهم كتاب في الرياضيات وهو مترجم إلى اللغة العربية في مجلدين ضخمين ….
وقد اختير زميلا في جامعة كامبريح فصار أستاذًا دون مطالبته بأن ينال الماجستير والدكتوراه لأنه في فلسفته وعمقه أكبر من أن يُطالَب بذلك فقد كان معترفًا به كأعظم فيلسوف ……
يقول في سيرته الذاتية: ((أشعر بالسعادة إذْ أنني لم أذهب إلى المدرسة من قبل ولو حصل ذلك لافتقرت إلى الشجاعة والمقدرة على التفكير المستقل المبدع الأمر الذي كان سيسبب لي شقاءً وألَمًا فالتفكير المستقل المبدع هو أكبر ملاذاتي وقت الشِّدة)) ويقول: ((من المؤسف حقًّا أن أرى الصِّبْيةَ الذين يفتقرون إلى الإدراك ولا يملكون القدرة على التفكير المستقل وليس عندهم ولعٌ ذاتي بالكتب المفيدة من المؤسف حقًّا أن نراهم في هذه الحالة المزرية)).
وعن تكوينه لذاته يقول: ((عندما بلغت الحادية عشرة بدأت بإقليدس وكانت هذه من الأحداث العظيمة في حياتي إذْ أني كنت مشدوهًا بنشوة المعرفة هذا الحب الأول فلم أكن أتخيل أن هناك شيئًا في العالم لذيذًا كذلك الشيء)).
لذلك كان يُشفِق على الدارسين الذين حُرموا من لذة المعرفة فالذي لا يجد لذَّةً في احتضان الكتاب ولا يحس بنشوة مع كل معرفة جديدة لن يكون لسنوات التعليم أي مردود حقيقي مهما طالت سنوات التعلُّم …..
إنه يرى أن المعرفة هي أعظم الملذات فالذين حُرِموا من هذه المُتَع قد ضاعت حياتهم وفقدوا أهم مباهح الحياة ….
لذلك فإنه يرى بأن قيمة التعليم لأي فرد لا تقاس بالسنوات التي أمضاها في مراحل التعليم كما أنها لا تقاس بعظَمة الكتب المقررة فالمعيار الوحيد عنده لجدوى التعليم هو غرس الرغبة التلقائية بالمعرفة ويقول: ((ليس المهم أن نفرض على الأفراد الدارسين أن يقرأوا كُتُبًا عظيمة فالأهم هو أن نجعلهم يحبون القراءة)).
ويقول: ((لما كنت طالبًا في الجامعة كان شعوري ومعظم زملائي أن المحاضرات مضيعة تامة لوقتنا)) ويصف التدريس في الجامعة بأنه: ((كان تدريسًا رديئًا كل الرداءة)) ولا يتردد بأن يصرِّح بأنه قد احتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لتحرير عقله وإبرائه من ضيق الأُفُق الذي أصابته به الجامعة إنه يرى أن مهمة المعلم ليست إعطاء معلومات بل إثارة الاستشكالات وغرس الشغف وإرشاد الطلاب إلى إلى أسماء الكتب المهمة التي تتجاوب مع شغفهم وأن يحرص على إحراجهم بأسئلةٍ تستوجب البحث والاستقصاء وبهذا التكوين المرن المفتوح المتوقد تنمو الفردية الواثقة ويتأسس العقل العلمي ويتكَوَّن الإحساس بالمسؤولية …..
ويقول: ((الكثير من المتاعب التي يعانيها الدارسون يمكن تجنبها)) ويرى أن أهم ما يجب أن يناله الدارسون هو تكوين الشغف بالمعرفة وجعلهم يستمتعون بالقراءة لتكون مواصلة التعلم الذاتي شوقًا عميقا من أشواق الذات التي لا ترتوي مهما نالت فإذا لم يتحقق ذلك فإن التعليم يكون قد أخفق إخفافًا تامًا …..
وهكذا نرى أننا أمام أعظم مؤلف في الرياضيات فيلسوف متعدد الكفايات بشكل يندر وجود مثله ومع ذلك فهو لم يلتحق بالتعليم العام إطلاقًا بل وثب إلى الجامعة رأسًا ومع ذلك كان يضجر من المحاضرات ويراها مضيعة للوقت وقدَّرت الجامعة كفاياته فصار أستاذًا في الجامعة دون إخضاعه للنمط التعليمي السائد: بكالوريوس ثم ماجستير ثم دكتوراه بل قفز من البيت إلى الجامعة دون المرور بالتعليم العام ثم قفز إلى الاستاذية دون إلزامه بمرحلة الماجستير والدكتوراه لأن كفاياته كانت زاخرة بشكل جعل التقيد معه بالنمط المعتاد غير لائق فهو فريد فلابد أن يكون التعامل معه على نفس المستوى ………










