ثائر صالح
حلت قبل أيام الذكرى المئوية لولادة نجم ساطع من نجوم الغناء في النصف الثاني من القرن العشرين، هو مغني الباريتون الألماني ديتريش فيشر-ديسكاو الذي دخل التاريخ بصفته أهم من قدم أغاني شوبرت المعروفة باسم (Lied). يثير صوته المتميز اهتمام المستمع منذ الوهلة الأولى، ويصبح المرء قادراً على معرفته فوراً حال سماعه من جديد. لكن ما ميّز فيشر-ديسكاو حقا لم يكن جمال وتميّز صوته فحسب، بل سيطرته الكاملة على هذا الصوت الشجي علاوة على ثقافته الموسيقية الواسعة وقدرته الفائقة على التعبير الدرامي. كان يمتلك حساسية مدهشة تجاه اللغة الشعرية، وكأن كل كلمة يتفوّه بها تحمل وزنها ومعناها الكاملين. كان قادراً على تجسيد المشاعر الإنسانية بكل ألوانها والتعبير عنها بكثافة عند أدائه لأغاني شوبرت الشجية أو أغاني شومان الرومانسية، ويتنقل بنا من الفرح العابر إلى الحزن العميق، ومن التأمل الهادئ إلى العشق المتوهج.
ولد فيشر-ديسكاو في برلين في 28 أيار عام 1925 في عائلة لها علاقة بالموسيقى، أحد أجداده كارل هاينريش فون ديسكاو مأمور ضرائب ساكسونيا، الذي كتب له يوهان سيباستيان باخ الكانتاتا الشهيرة المعنونة كانتاتا الفلاح بمناسبة منحه ثلاث قرى. الجد الآخر هو لودفيغ فيشر مغني الباص الذي غنى دور أوزمين في أوبرا موتسارت اختطاف من السراي في أول عرض لها في فيينا سنة 1782.
بزغ نجمه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح سريعا أحد أبرز الأصوات في الأغنية الألمانية والأوبرا. قدّم بصوته الذي تميز بدفئه وعمقه ومرونته المذهلة الكثير من الأعمال الغنائية ومن مختلف العصور: من باخ وهندل وموتسارت وشوبرت وشومان، وصولًا إلى برامز ومالر حتى ريشارد شتراوس والمؤلفين المعاصرين، مثل تشارلز إيفز، وله كتب بنجامين برتن عمله الشهير قداس الحرب الجنائزي. لا يمكن العثور بين أقرانه من كبار المغنين على مغنٍ أدى مثل هذا الريبرتوار المتنوع العابر لقرون عديدة الذي قدّمه فيشر-ديسكاو.
لم يقتصر إبداع فيشر-ديسكاو على الأغنية الألمانية، بل امتد ليشمل عالم الأوبرا، حيث قدم أدوارا أساسية في أعمال لموزارت (دون جيوفاني)، وفيردي (فالستاف)، وفاغنر (دور هانس زاخس في "أساطين الغناء من نورمبرغ"). أظهر في هذه الأدوار قدرة فائقة على تجسيد الشخصيات الدرامية بأبعادها المختلفة، مستخدمًا صوته كأداة تعبيرية قوية.
إلى جانب مسيرته الغنائية المذهلة، كان فيشر-ديسكاو مثقفا واسع الاطلاع، وموسيقيا يتمتع برؤية عميقة. ترك لنا إرثا غنيا من التسجيلات التي لا تزال حتى اليوم مرجعا أساسيا لفهم وتذوق الموسيقى الكلاسيكية، بدأه في 1951 بتسجيل كل أغاني شوبرت المناسبة لصوته مع عازف البيانو الإنكليزي جيرالد مور الذي رافق أشهر المغنين، وواصله مع شركات التسجيل الشهيرة مثل دويتشه غرامافون وإي أم آي.
اتجه بعد اعتزاله الغناء سنة 1993 إلى قيادة الأوركسترا وتدريس طرق الغناء والرسم، وكتب العديد من الكتب والمقالات التي تعكس شغفه بالموسيقى والشعر.
موسيقى الاحد: مئوية ديتريش فيشر-ديسكاو

نشر في: 1 يونيو, 2025: 12:01 ص










جميع التعليقات 1
وسام الزهاوي
منذ 6 شهور
حضرت له الحفلات التي في لندن في أوائل الستينيات. وسام الزهاوي