TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فلسطين بعد غزة: لحظة تحوّل استراتيجي في موقع القضية ضمن البيئة الإقليمية والدولية

فلسطين بعد غزة: لحظة تحوّل استراتيجي في موقع القضية ضمن البيئة الإقليمية والدولية

نشر في: 2 يونيو, 2025: 12:02 ص

محمد علي الحيدري

لم تكن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة مجرّد جولة أخرى في صراع مزمن، بل مثّلت نقطة تحوّل استراتيجية كشفت عمق التحولات في إدراك طبيعة الصراع وحدوده، سواء لدى الشعوب أو في أروقة التقدير السياسي والعسكري الإقليمي والدولي. فبعد سنوات من محاولات فرض واقع يتجاوز القضية الفلسطينية تحت لافتات "السلام الاقتصادي" و"الاستقرار مقابل التطبيع"، جاءت المجزرة لتقلب هذه المعادلات، وتعيد تموضع فلسطين في قلب المشهد، بوصفها ليس فقط قضية سياسية، بل اختباراً أخلاقياً للمنظومة الدولية بأكملها.
أظهرت هذه اللحظة بجلاء فشل المقاربة الإسرائيلية التي اعتمدت الحسم العسكري كأداة وحيدة لفرض الوقائع، وفشلت في استيعاب ديناميات الشعب الفلسطيني ومعنى الصمود تحت الحصار. ورغم التفوق العسكري والتكنولوجي لإسرائيل، إلا أن عجزها عن الحسم أو تهدئة الداخل كشف عمق الأزمة البنيوية داخل النظام السياسي الإسرائيلي، وفاقم من الانقسام المجتمعي وفقدان الثقة بالقيادة.
في الوقت ذاته، بدأ الغطاء السياسي الذي وفّرته الولايات المتحدة لحكومة اليمين الإسرائيلي بالتآكل على مستوى الوعي العالمي، إذ تتزايد الأصوات داخل الكونغرس، والجامعات، والمنظمات الحقوقية، التي تدعو إلى إعادة النظر في الدعم غير المشروط لإسرائيل، وتربط ذلك بمصداقية الالتزام الأميركي المعلن بحقوق الإنسان والقانون الدولي. كما تبرز مؤشرات متزايدة على تحوّل في الرأي العام الأميركي، لاسيما بين الشباب، بما في ذلك داخل أوساط الجاليات اليهودية، ما يعيد فتح النقاش حول شرعية الاحتلال ومستقبل الدعم الأميركي لإسرائيل.
فلسطينيًا، كشفت الأحداث عن ضعف حضور السلطة الفلسطينية، التي بدت غائبة عن لحظة مفصلية كانت تتطلب قيادة موحدة، وموقفاً سياسياً يعكس نبض الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج. وقد ساهم استمرار الانقسام السياسي، والجمود المؤسسي، في إضعاف موقع منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد، وفتح المجال أمام فواعل أخرى لملء هذا الفراغ، ليس فقط عسكرياً، بل تمثيلياً ورمزياً. وهذا الواقع يُحتّم ضرورة إعادة هيكلة النظام السياسي الفلسطيني، وضمان تمثيل شامل لجميع مكونات الشعب، على أسس ديمقراطية تعيد تأسيس شرعية وطنية حقيقية.
في الإطار الإقليمي، ورغم انخراط بعض الدول في مسارات تطبيع متسارعة خلال السنوات الأخيرة، فإن الحدث أثبت أن فلسطين ما زالت تحتل موقعاً محورياً في الوجدان الشعبي العربي، وهو ما برز في موجات التضامن الواسعة التي عمّت شوارع العواصم العربية والعالمية. لقد بات من الصعب على الأنظمة تجاهل هذه الحقيقة أو التقليل من تداعياتها على الاستقرار الداخلي، خاصة في ظل تصاعد المزاج الشعبي الرافض للتطبيع دون تحقيق الحقوق الفلسطينية.
أما على الصعيد الدولي، فإن القضية الفلسطينية استعادت موقعها كمؤشر على مدى التزام النظام العالمي بمبادئ العدالة والقانون الدولي. فجرائم الحرب، والحصار، وتهجير المدنيين، لم تعد تمرّ دون مساءلة، بل أصبحت محل اهتمام مؤسساتية متزايدة في محافل حقوق الإنسان والبرلمانات الوطنية والمحاكم الدولية. وفي هذا السياق، نشهد تنامياً ملحوظاً في الدعوات لإحياء حل الدولتين على قاعدة إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق السياسية والمدنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير، وقيام دولة مستقلة قابلة للحياة على حدود عام 1967، عاصمتها القدس الشرقية.
هذه العودة المتجددة لحل الدولتين لا تعني عودة إلى مسارات تفاوض عبثية أو فرض تسويات منقوصة، بل تعبّر عن قناعة متزايدة لدى المجتمع الدولي بأن بقاء الاحتلال واستمرار الانتهاكات يمثل تهديداً طويل الأمد ليس فقط على الفلسطينيين، بل على السلم الإقليمي والدولي أيضاً. وهو ما يُشكّل فرصة حقيقية للقوى الفلسطينية والعربية لإعادة صياغة موقف موحّد يُقابل هذه المتغيرات بمشروع سياسي واضح، يستند إلى الشرعية الدولية ويخاطب العالم بلغة الحقوق والقانون، لا بمنطق ردّ الفعل وحده.
في ضوء ما سبق، فإن ما بعد غزة ليس مجرد استمرار للماضي، بل بداية مرحلة جديدة تفرض إعادة صياغة استراتيجية شاملة. أمام الفلسطينيين والمجتمع الدولي خيارات مفصلية: إما إعادة إنتاج واقع الانقسام والركود، أو بناء قيادة وطنية جامعة تعيد بلورة المشروع التحرري الفلسطيني على أسس مؤسساتية شرعية وتشاركية. أما الإقليم والعالم، فهما أمام اختبار حقيقي: إما ترسيخ قيم العدالة والكرامة التي يرفعونها، أو الاستمرار في سياسة المعايير المزدوجة التي تُقوّض السلم والاستقرار على المدى البعيد.
الثابت الوحيد أن فلسطين، بعد غزة، عادت لتفرض حضورها في الوعي الجمعي العالمي، وتحتل موقعها في قلب الجدل الأخلاقي والسياسي لعصر مضطرب. وهذه لحظة لا ينبغي إهدارها، بل البناء عليها بوعي استراتيجي يعيد تعريف النضال الفلسطيني ضمن موازين القوى والفرص الجديدة، ويؤسّس لمستقبل أكثر عدلاً وواقعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram