TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في حضرة الكلمة.. التكريم يليق بمن صانها

في حضرة الكلمة.. التكريم يليق بمن صانها

نشر في: 2 يونيو, 2025: 12:03 ص

جاسم الحلفي

في زمن تتزاحم فيه الضوضاء على المعنى، ويغلب فيه الاستعراض على القيمة، يجيءُ تكريم فخري كريم بوصفه "شخصية العام الإعلامية" في قمة الإعلام العربي بدبي (2025)، ليُعيد الاعتبار للكلمة الجادة، وللصحافة التي لم تنكفئ رغم الأزمات، ولم تساوم رغم الإغراء.
هذا التكريم لا يُنصف فرداً فحسب، بل يُنصف سيرة فكر ومسار ثقافة. إنه اعتراف بمشروعٍ استثنائيٍ نهض به فخري كريم، لم تكن فيه الصحافة مجرّد مهنة، بل كانت فعلاً تحررياً، وخياراً وجودياً في الدفاع عن الكلمة الحرّة، والإيمان العميق بأن الثقافة صوتٌ للمجتمع لا صدى للسلطة. على امتداد عقود، اختار أن يقف إلى جانب العقل، وأن يجعل من الإعلام منبراً للتنوير، لا أداةً للترويج أو التزييف.
بدأت ملامح مشروعه تتشكّل منذ ستينات القرن الماضي، حين شارك في تأسيس صحف معارضة للدكتاتورية والاستبداد، وأسّس بعدها مجلات فكرية، منها "مجلة النهج" التي حملت همّ التنوير والعدالة الاجتماعية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم ما واجهه من تضييق وملاحقة.
لكنّ التحول الأهم جاء مع تأسيس "دار المدى" في تسعينيات القرن الماضي، والتي لم تكن مجرّد دار نشر، بل مؤسسة ثقافية متكاملة، جمعت بين النشر والتوثيق والصحافة والعمل الميداني الثقافي. فأصدرت آلاف الكتب، ونشرت لعشرات الأسماء اللامعة، ورفعت شعار المعرفة للجميع والحرية والعقلانيّة.
ومن بين أبرز مبادراته الثقافيّة، إطلاقه سلسلة معارض الكتاب من دمشق وبيروت، إلى أربيل، ثم بغداد بعد التغيير، والتي لم تكن مجرّد فعاليات مهنيّة، بل تحوّلت إلى مهرجاناتٍ للمعنى، وبؤرٍ نابضة بالحوار والانفتاح. لقد مثّلت تلك المعارض فضاءً رحباً للإبداع، ومتنفّساً للفكر الحر، ومنصّةً التقت عندها أجيال الكتّاب والقرّاء، في زمنٍ كانت الثقافة فيه آخر خطوط الدفاع عن المعنى.
ومع عودته إلى العراق بعد 2003، أسّس صحيفة "المدى" اليوميّة، التي سرعان ما تحوّلت إلى واحدة من أبرز المنصات الصحافيّة الحرة في البلاد، ملتزمة بخط تحريري يحترم القارئ، ويقاوم خطاب الكراهية والطائفية، ويفتح المجال للرأي الآخر.
لم يكن فخري كريم يوماً محايداً بين الجلاد والضحية، بل كان دائماً في صف الشعوب، وفي قلب معاركها من أجل الكرامة والمعرفة. ولذلك، جاء هذا التكريم، ضمن الدورة الثالثة والعشرين لقمة الإعلام العربي، بمثابة اعتراف مستحق بمسيرة لم تهادن، ولم تنحرف عن بوصلتها.
ليس هذا التكريم تتويجاً لمسيرة حافلة بالإنجاز فحسب، بل حافزٌ للجيل الجديد كي يواصل درب الكلمة الحرة، والعمل الثقافي الجاد، والإعلام الذي يصنع فرقاً. ففي زمن يعلو فيه الضجيج، تبقى الحاجة لصوت رصين غير مهادن أكثر إلحاحا.
من "المدى" إلى معارض الكتاب، ومن المقال إلى الموقف، ترك فخري كريم أثراً لا يُمحى. والمهمة اليوم تتجاوز شخصه، لتغدو مسؤولية كل من يؤمن أن الثقافة التزام، وأن الصحافة فعلٌ تغييري لا مهنة عابرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram