د.فالح الحمــراني
تدخل تسوية الازمة الاوكرانية في منعطف حرج، ففيما تتواصل جهود التسوية السلمية، مازالت مقاربات الاطراف متناقضة لدرجة لا تلوح من خلالها نقاط تلاق وتفاهم يمكن البدء منها، فكل طرف يرفض الشروط التي يضعها الاخر، وعلى هذه الخلفية يواصل الغرب تأجيج المواجهة ويهدد بتشديد العقوبات وتسليم اوكرانيا صواريخ بعيدة المدى لنقل الحرب الى داخل روسيا ونشر قواته المسلحة على تخومها والحاق هزيمة استرتيجية بها، وموسكو تهدد بالرد المناسب، ويهدد اشتداد المواجهة بنهاية السلام في اوربا وتقويض النظام الدولي.
وتُعد الطريقة التي تنتهي بها الحروب مسألة مهمة. وإذا ما كنا نتحدث عن اوروبا فقد اعلن في مؤتمر فيينا نهاية حروب نابليون وتصالح القوى الأوروبية الكبرى، بما في ذلك مع فرنسا المهزومة. وأدى ذلك إلى اتفاق أوروبي شامل كفل ارساء سلام طويل الأمد، وإن كان غير كامل، لم ينته إلا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
واندلعت الحروب الحديثة بشكل أساسي في أوروبا. وبعدها جرى ابعاد قوتين نافذتين من القوى الأوروبية من أي مشاركة في الشؤون الأوروبية أو الالتزامات المتعلقة بالحفاظ على الاستقرار في أوروبا. ومهد ابعاد ألمانيا وروسيا بصورة انتقامية، الطريق لنشوب الحرب العالمية الثانية، التي كانت بالنسبة للأمريكيين حرباً عبر الأطلسي وعبر المحيط الهادئ في آن واحد. ولم تنته هذه الحرب بالسلام، بل بحرب باردة ونظام دولي متوتر ولكنه مستقر، دعمته سياسة الردع، سيما النووي، المتبادل عن طريق المواجهة العسكرية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
إن عدم الرغبة في منح روسيا دوراً لائقا في الشؤون الأوروبية يتناسب مع قوتها أدى مرة أخرى إلى نشوب حرب في القارة. فدروس التاريخ واضحة، وتبين انه من المستحيل إقامة نظام مستقر في أوروبا إذا استبعدت إحدى قواها الكبرى من عملية صنع القرار. فأولئك الذين لا يملكون وسيلة سلمية لضمان احترام مصالحهم في مجال الأمن، سيلجأون حتما إلى خيار القوة للدفاع عنها. وفي ظل غياب آفاق إنشاء منظومة مستدام لحماية مصالحهم، سيفضلون تحقيقها في ساحات القتال بدلاً من التفاهم بصددها على طاولة المفاوضات. وهذه هي خلفية النزاع الأوكراني.
وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من اللامبالاة ورفض الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الأخذ بعين الاعتبار مخاوف روسيا على أمنها الوطني، وجهت موسكو إنذاراً نهائياً، مطالبة بمفاوضات بشأن ثلاث من القضايا التالية: * حياد أوكرانيا بدلاً من انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي وهو التحالف الذي تم إنشاؤه لمواجهة روسيا عسكرياً؛ * احترام حقوق سكان اوكرانيا الناطقين بالروسية الثقافية / الدينية، *الاتفاق على وضع آليات أمنية مشتركة يمكن ان تخفف مخاوف روسيا والغرب على حد سواء. ورفض الغرب رفضاً قاطعاً مناقشة هذه القضايا، مما وضع روسيا أمام خيارين: أما التخلي عن القضايا المدرجة في إنذارها النهائي، والموافقة على مرابطة قوات حلف الناتو والقوات الأمريكية على حدودها الغربية، أو شن حرب لمنع تجسيد خطط الغرب تلك. وجعل روسيا تختار الحرب، على الرغم من أنها اقتصرتها على ما يسمى بـ "العملية العسكرية الخاصة".
بعد بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، جرى في أسابيع قليلة وضع مسودة اتفاقية، التزمت أوكرانيا بموجبها بتنفيذ المطالب الأساسية لروسيا. لكن الغرب سارع باحباطها لانه يهدف إلى "عزل وإضعاف" روسيا أكثر من اهتمامه بوقف إطلاق النار. وأقنع الغرب أوكرانيا برفض شروط اتفاقية السلام التي وقعها الطرفان بالاحرف الاولى.
إن العمليات القتالية في أوكرانيا تتواصل للسنة الرابعة على التوالي. وهذه كارثة لأوكرانيا وإذلال للغرب. فأوكرانيا تحتضر وفقدت سكانها، وضعفت قدرتها الصناعية، واستنزفت قوتها العسكرية، وفقدت ديمقراطيتها، وأصبحت مفلسة، وتقلصت أراضيها بشكل ملحوظ. في غضون ذلك، لم تتحول روسيا إلى دولة معزولة أو ضعيفة. فهي تواصل تحقيق أهدافها، واصبحت شروطها للسلام أكثر صرامة. فيما تقل خيارات أوكرانيا، ولن تتوقف روسيا عن الإصرار على إزالة التهديد من أراضي أوكرانيا، وكذلك على اتفاق سلام واسع النطاق وشامل في أوروبا. وترفض الهدنة المؤقتة في أوكرانيا، اواللاحرب ولا السلم على غرار كوريا - بين روسيا والغرب. لن يتمكن الغرب من تحقيق النصر على أرض المعركة ولن يتمكن من تحقيق النصر على طاولة المفاوضات.
إن بديل الحرب هو عقد اتفاق سلام يرسم حدودا متفق عليها بين أوكرانيا وروسيا ويمنع تقسيم أوروبا إلى كتل معادية. وبنيغي على روسيا والغرب لتحقيق ذلك، اتخاذ التدابير التي من شأنها تبدد مخاوف وشكوك بعضهما البعض. ولن يكون ذلك سهلاً على كلا الطرفين. لكن حان الوقت على الأقل لبذل محاولة تحقيق السلام المنشود. من المؤكد ان التوصل الى اتفاق سلمي أصبح أكثر صعوبة بسبب التغييرات التي طرأت على الساحة الدولية منذ بدء الأعمال العسكرية. واثبتت الولايات المتحدة انتهاكها المتكرر لمبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" (الوفاء بالاتفاقيات). ولا أحد، ولا سيما روسيا، يعتقد أن واشنطن ستفي بوعودها.
وتعتبر أغلبية العالم إن السياسة الغربية غير عادلة. وقد أدى فرض الولايات المتحدة ومجموعة الدول السبع العقوبات العشوائية وغيرها من التدابير القسرية إلى أن جميع هذه الدول تقريبًا لم تعد تحترم القيادة الغربية، ولم تعد مستعدة لاتباع التوجيهات الغربية.
إن العلاقات المتوترة والمتدهورة بين الغرب والقوى الصاعدة (البرازيل والهند والصين)، التي لديها مصلحة في أن تكون وسيطة في إحلال السلام، تؤدي الى ابتعادها عن الغرب مما قد تكون له عواقب بعيدة امدى على القارة العجوز، وستكون تفضي التغييرات السلبية في النظام العالمي إما تفاقم الفوضى أو ظهور نظام جديد للعلاقات الدولية يُستبدل فيه الفوضى العالمية الحالية باحترام المساواة بسيادة الدول وفهم مخاوفها بشأن أمنها. وستحدد نتيجة النزاع في أوكرانيا أيًا من هذين البديلين سيكون مستقبل كوكبنا.










