TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين"

"دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين"

نشر في: 4 يونيو, 2025: 12:02 ص

محمد الربيعي

انتشر مقال "دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين" لغوندولا بوش بشكل واسع على الصفحات الاكاديمية لوسائل التواصل الاجتماعي، مما اثار اهتمام العديد من التدريسيين والباحثين. الملفت للنظر ان هذا الاهتمام الكبير جاء بالرغم من عدم ترجمة المقال الى اللغة العربية، وهو ما يشير الى اهميته ومضمونه القيم الذي يلامس قضايا جوهرية في التعليم العالي. تجادل غوندولا بوش بأن برامج الدكتوراه الحالية، لا سيما في العلوم الطبية الحيوية، غالبا ما تقصر في دورها من خلال اعطاء الاولوية للمعرفة المتخصصة للغاية على التفكير النقدي الاوسع والفهم الشامل للعملية العلمية. وتؤكد ان هذا النهج ينتج باحثين ذوي تركيز ضيق بدلا من حلالي مشكلات متكاملين.
بينما تقر بوش بوجود بعض التخوف الاولي من اعضاء هيئة التدريس بشان الابتعاد عن التدريب المتخصص التقليدي، الا انها تعتقد ان تعزيز التفكير النقدي سيؤدي في النهاية الى علماء اكثر ابتكارا وموثوقية ووعيا اخلاقيا. ويعكس عملها ادراكا متزايدا بأن اتباع نهج اكثر شمولية في تعليم الدكتوراه امر ضروري لاعداد الباحثين للتحديات المعقدة للمشهد العلمي الحديث.
لماذا يجب ان نستلهم افكار غوندولا بوش لانقاذ شهاداتنا الجامعية في العراق؟
في خضم التحديات التي تواجه التعليم العالي في العراق، حيث اصبحت شهاداتنا الجامعية، وبخاصة الدكتوراه، مثار جدل كبير بسبب ميلها نحو التلقين والبحوث السطحية المستوردة، تأتي مقالة الدكتورة غوندولا بوش "دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين" لتضيء لنا طريقا للخروج من هذا المازق. ان افكار بوش ليست مجرد تنظير اكاديمي، بل هي دعوة ملحة لاعادة التفكير في جوهر التعليم العالي، وهي دعوة تكتسب اهمية قصوى في سياق الجامعات العراقية التي تدهورت فيها قيمة الشهادات بشكل ملحوظ.
تحويل الهدف من الشهادة الى العلم والتفكير النقدي
تشخص بوش بدقة المشكلة الاساسية في برامج الدكتوراه الحالية، وهي انها تركز على انتاج متخصصين ضيقي الافق بدلا من مفكرين نقديين قادرين على فهم الصورة الاكبر. هذا الوصف ينطبق تماما على الوضع في الجامعات العراقية، حيث اصبح الحصول على شهادة الدكتوراه غاية بحد ذاتها، لا وسيلة لتحقيق التقدم العلمي او الفكري. الطلاب غالبا ما ينخرطون في بحوث تعتمد على افكار مستوردة ومستهلكة، يفتقرون الى الاصالة والعمق النقدي، والهدف الاسمى هو انجاز "بحث التخرج" للحصول على اللقب، وليس المساهمة الحقيقية في المعرفة او حل المشكلات المجتمعية.
تطالب بوش بأن يزود تدريب الدكتوراه الطلاب بالقدرة على التعرف على الاخطاء وفهم قيود العلم والنظر في الاثار المجتمعية لبحوثهم. هذه المبادئ هي بالضبط ما نحتاجه بشدة في العراق. ففي ظل بيئة اكاديمية تقدس "الاجابات النموذجية" وتقلل من شان التساؤل النقدي، يخرج حاملو الدكتوراه غالبا غير قادرين على تحدي الافكار السائدة او تطوير حلول مبتكرة للمشكلات المعقدة التي تواجه بلادنا. انهم يفتقرون الى "عين الناقد" التي تسمح لهم بفلترة المعلومات، وتمييز البحث الرصين من السطحي، وتوليد افكار اصيلة.
اصلاح المناهج: نحو التفكير الشمولي والبعد الاخلاقي
تقدم بوش مبادرة "R3 Graduate Science" في جامعة جونز هوبكنز كمثال يحتذى به، حيث تدمج هذه المبادرة دورات في الاخلاق، ونظرية المعرفة (Epistemology)، والمهارات الكمية. ان تطبيق مثل هذه المناهج في جامعاتنا العراقية يمكن ان يحدث ثورة حقيقية. فتعليم الاخلاقيات البحثية ليس رفاهية، بل هو ضرورة قصوى لوقف ظاهرة الانتحال الاكاديمي والبحوث غير النزيهة. كما ان فهم نظرية المعرفة يمكن ان يساعد الطلاب على فهم كيفية بناء المعرفة، وتحدي الافتراضات، وتطوير رؤى جديدة. في العراق، حيث يبدو ان كثيرا من بحوث الدكتوراه هي مجرد تكرار او تجميع لافكار جاهزة، فأن التركيز على هذه الجوانب يمكن ان يعيد لشهاداتنا قيمتها. يجب ان نعلم طلابنا "كيف يفكرون" بدلا من "ماذا يفكرون فيه". يجب ان نشجعهم على طرح الاسئلة الصعبة، والتشكيك في المسلمات، والبحث عن حلول مبتكرة من قلب الواقع العراقي، لا استيرادها جاهزة من بيئات مختلفة تماما.
التحدي الاكاديمي: بناء علماء مبدعين ومسؤولين
ادراك بوش لبعض التخوف من اعضاء هيئة التدريس بشان الابتعاد عن التدريب المتخصص التقليدي هو امر مفهوم. فالتغيير دائما ما يواجه مقاومة. لكن في حالة الجامعات العراقية، يجب ان نتجاوز هذه المقاومة. ان الوضع الراهن لشهاداتنا لا يحتمل التأجيل. اننا بحاجة ماسة الى جيل جديد من حاملي الدكتوراه الذين ليسوا مجرد "خبراء" في مجال ضيق، بل هم مفكرون استراتيجيون وقادة فكر واصحاب رؤى يمكنهم دفع عجلة التنمية في البلاد. اذا اخذنا باقتراحات غوندولا بوش، فاننا لا نصلح فقط برامج الدكتوراه، بل نعيد بناء ثقافة اكاديمية تعلي من شان العلم الحقيقي والتفكير النقدي الاصيل والمسؤولية الاخلاقية للباحثين. انها دعوة للجامعات العراقية لتتحول من مصانع للشهادات الى حاضنات للافكار، ومن مراكز للحفظ الى منارات للتفكير. ان مستقبل التعليم العالي في العراق، وبالتالي مستقبل البلاد ككل، يعتمد بشكل كبير على مدى استعدادنا لتبني هذه الرؤية والعمل على تحقيقها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. د. مزهر النعيمي

    منذ 6 شهور

    طلبة الدكتوراه بعموم المعموره تتضمن برامجهم التركيز عل التخصص الدقيق والتفكير النقدي وأخلاقيات البحث العلمي ومنهجية البحث ووضع الاهداف والدراسات والنظريات السابقة اضافة للتحليل العلمي بجمع البيانات ؛ من الضروري ان لا تتجاهل جهود جامعاتنا في مثل كذا مقال.

  2. کیوان کریم خان فتاح

    منذ 6 شهور

    I would like to participate this

  3. غازي التميمي

    منذ 6 شهور

    شكراً دكتور على كتابة هذا المقال الرصين، والذي أكّدَ على إلزاميّة مغادرة النمط الحالي المتبع في التعليم العالي الذي يرتكز على إيصال المعلومة وتحفيظها للطالب الذي سيرجعها إلى الاستاذ عند الإمتحان.نحن بحاجة لإيقاد نبراس التفكير النقدي والتحليل والإستنباط.

  4. د.عبد الجليل البدري

    منذ 6 شهور

    تتحدى مقالة بوش محدودية برامج الدكتوراه، وتحث على المرونة الفكرية. وتقدم إصلاحاتها العملية، مثل الأخلاقيات ونظرية المعرفة، حلولاً جذرية. إن أفكارها ذات أهمية عالمية، لا سيما في العراق، حيث يُعد إصلاح التعليم أمرًا بالغ الأهمية لتنمية قادة فكر حقيقيين.

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram