بيير ميشيليتي
ترجمة: عدوية الهلالي
منذ تولي الرئيس ترامب السلطة، وما صاحب ذلك من تزامن مع الصراع الكبير الذي يهز قطاع غزة، تضافرت تطورات مختلفة لتدمير منظومة الإغاثة الدولية الطارئة التي بُنيت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد شمل النموذج الإنساني الذي ساد حتى نهاية عام ٢٠٢٤ ثلاث مجموعات رئيسية من الجهات الفاعلة: اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي أنشأها السويسري هنري دونان عام ١٨٦٣، إلى جانب الفقيه القانوني موانييه والجنرال دوفور، الذين كانوا أول من ساهم في تطوير القانون الدولي الإنساني بصيغته الحديثة؛ ووكالات الأمم المتحدة المعنية بإدارة الطوارئ في حالات الأزمات؛ والمنظمات الدولية غير الحكومية.
والقاسم المشترك بين جميع هذه المنظمات هو احترام المبادئ الأساسية للإنسانية والحياد وعدم التحيز والاستقلال. وبالمثل، تحترم جميعها اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية.وتهدف هذه النصوص إلى "إضفاء طابع إنساني" على الحرب وضمان عدم إمكانية تحقيق كل شيء، حتى أثناء النزاع، عندما يتعلق الأمر بالعنف المسلح، وخاصة ضد الجرحى المقاتلين وأسرى الحرب والسكان المدنيين.
ولم يكن النظام القائم مثاليًا ولا خاليًا من العيوب بوجود المركزية الغربية للدول الممولة، والشكوك المُنسوبة إليها بـ"القوة الناعمة" من خلال الأموال المُخصّصة؛ والتراجعات المالية التي كان النظام قادرًا على القيام بها عندما كانت المهام الوطنية تُقدّم على التضامن الدولي (كما حدث خلال جائحة كوفيد-19)؛ والليبرالية الجديدة كعلامة فارقة لنظامٍ تُترك فيه الدول المانحة الرئيسية للمنظمات غير الحكومية جمع ما يقارب 20% من المبالغ السنوية المُجمّعة من مواطني الدول المُضيفة لها؛ وبروز إغراءٌ لتبني نهجٍ قائمٍ على الأمن، مما دفع المُموّلين إلى السعي لفرض إجراءات فحصٍ على الموظفين والشركاء التنفيذيين للقضاء على أي خطرٍ من دعم الأفراد أو المنظمات المُقرّبة من الجماعات المُصنّفة إرهابية. بل إنهم دعوا إلى إمكانية تطبيق هذه الإجراءات مباشرةً على متلقي المساعدة، وهو أمرٌ لطالما رفضته المنظمات غير الحكومية حتى ذلك الحين. كانت الصعوبات المالية مزمنة، مع عجز في الموارد بنسبة 40% سنويًا على مدى السنوات العشر الماضية، مقارنةً بتقييمات الاحتياجات التي أجرتها الأمم المتحدة، ليصل إجمالي الإنفاق إلى 43 مليار دولار أمريكي في عام 2023.
وفي ظل هذه الظروف، حدثت أول صدمة كبرى تُصيب نموذجًا اقتصاديًا هشًا أصلًا، مع الانسحاب المفاجئ لتمويل النظام الذي حددته واشنطن، أكبر مُمول للمساعدات في العالم. كان لهذا الانسحاب عواقب فورية على مصير 300 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، كما شكّل مخاطر وجودية على جميع الجهات الفاعلة الإنسانية الدولية.ويأتي هذا الزلزال في وقت تُنتهك فيه جميع أساسيات القانون الدولي الإنساني بشكل صارخ في غزة: أكثر من 50 ألف قتيل حتى الآن، نسبة كبيرة منهم من النساء والأطفال؛ وأكثر من 400 عامل إنساني قُتلوا، مما يجعل هذا الصراع أخطر الحروب المعاصرة على موظفي مختلف المنظمات الإنسانية؛ وقرارات لم تُؤثّر على آراء وإدانات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. ومن بين منظمات الأمم المتحدة، تُعدّ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) هدفًا لاستراتيجية استئصال من خلال سلسلة من المناورات المالية والسياسية، مدعومة بحملة شيطنة، لم تُبرَّر بوضوح قط، بتهمة التواطؤ مع مرتكبي مجازر 7 تشرين الأول في إسرائيل.
وفي هذا السياق، وبعد سيناريو "ريفييرا 2"، ثم الترحيل الجماعي لسكان غزة، برزت فكرة إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية". هذه المنظمة الغامضة، التي أُنشئت خصيصًا لهذه المناسبة، والتي يُشكل تمويلها وكوادرها وممارساتها التشغيلية واستراتيجياتها لمراقبة متلقي المساعدات جزءًا من إنكار تام للمبادئ التأسيسية للعمل الإنساني. وبسبب الخطر الواضح المتمثل في عدم الامتثال لهذه المبادئ الأساسية، انسحب جاك وود، المرشح لمنصب مدير هذه المؤسسة.
وفي ظل نظام ضعيف، وفي مواجهة جهات فاعلة إنسانية تشعر بعدم الأمان بشأن وجودها، يُصبح من الممكن التجرؤ على اتباع نهج إضافي لإلغاء القيود، يُقدم على أنه ابتكار، بينما تستمر القنابل في قتل المدنيين. وسيكون هذا النشوء القاتل بمثابة ترياق مطلق لجميع المعايير الأساسية التي تُوجه المنظمات الإنسانية، وإذا ما تأسس كاحتكار للتدخل، فسيُنذر بتدمير محتمل لقدرتها على العمل مستقبلًا لصالح سكان غزة. إلى جانب الأسئلة الجوهرية التي أثارتها هذه الآلية، كشف تطبيقها الفعال فورًا عن طبيعتها اللاإنسانية وعدم فعاليتها العملية. وأدى ذلك إلى تعليق أنشطتها، التي قُدّمت على أنها مؤقتة. ولا يزال شريان الحياة مقطوعًا، في ظل إفلات تام من العقاب.
ومع استمرار تزايد العقبات والشروط المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية، يبقى وضع حلول السلام الدائم على أجندة العلاقات الدولية ضرورةً ملحة. ويُبشّر الاجتماع بشأن فلسطين، المقرر عقده خلال الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك من 17 إلى 20 حزيران، والذي تستضيفه فرنسا والمملكة العربية السعودية، بقرارات محتملة تُبشّر أخيرًا بإنهاء الشلل السياسي. وتبدو بريطانيا العظمى وكندا وفرنسا عازمة على دعم حل الدولتين. وإذا تأكد ذلك، فسيظهر مستقبلٌ مُحتملٌ لمليوني غزّي عالقين في الحرب لأكثر من 18 شهرًا، ليتمكن السكان المدنيون أخيرًا من الفرار من المعادلة الوحيدة التي فرضتها إسرائيل وحلفاؤها حتى الآن: القنابل والخبز بكمياتٍ مُدروسة بعناية.










