TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حين يتغافل السياسي صوت العقل يكتب بيده تاريخ سقوطه

حين يتغافل السياسي صوت العقل يكتب بيده تاريخ سقوطه

نشر في: 19 يونيو, 2025: 12:03 ص

عصام الياسري

بعد حل الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي عقد اتفاق بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" من جهة، والقيادة الروسية من جهة، على ان لا يتمدد الناتو للتواجد في أراضي الدول المجاورة لروسيا. إصرارها بتحريض من بعض القادة الأوروبيين والأمريكان، أجرت أوكرانيا عام 2019 تعديلات دستورية نصت على اعتبار العضوية الكاملة في الناتو مسارا استراتيجيا للدولة وتقديم طلب لدخول حلف شمال الأطلسي والانظمام للاتحاد الأوروبي. مما اعتبرته روسيا خرقا فاضحا للاتفاق وأثار مخاوفها المشروعة على أمنها القومي. تماديها في السياسة الاستفزازية لقوة إقليمية كبرى مثل روسيا، وإغفال صوت العقل، قربت أوكرانيا ساعة الفوضى واندلاع الحرب الآتية لا محالة...
في الشأن العراقي من حيث عقلية الطبقة السياسية وتسبب أحزاب السلطة في تدهور الأوضاع المجتمعية والسياسية والاقتصادية والمعيشية في العراق وسوء إدارة الدولة وقهر مواطنيها، بالإضافة إلى ممارستها سياسة الفصل الطائفي الذي أدى إلى عدم التوازن بين الدولة والشعب هناك أوجه تقارب في السلوكيات والنتائج من حيث تهديد الكيان العراقي: بأن الطبقة السياسية وأحزابها الماسكة بالسلطة بالنهاية سيؤدون إلى سقوطهم وحدوث فوضى في بلدهم كما يحدث في أوكرانيا.
في شباط 2022، اشتعلت شرارة الحرب في أوكرانيا، بعد سنوات من التوتر والتصعيد غير المحسوب ارتكبت كييف خطأ استراتيجيا حين تجاهلت موازين القوى، وأصرت على التقرب من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، متجاوزة بذلك الخطوط الحمراء التي أعلنتها موسكو مرارا وتكرارا باعتبارها مساسا بأمنها القومي. لقد دفعت أوكرانيا ثمنا باهظا لهذه السياسات؛ حرب مدمرة، نزيف بشري واقتصادي، وانقسام داخلي لم تشهده منذ عقود...
ولعل من المأساوي أن نرى في المشهد العراقي ملامح شبيهة من الغفلة والتجاهل السياسي، ولكن في سياق مختلف. ففي العراق، تمادت الأحزاب الحاكمة وتوغلت في فسادها، وسوء إدارتها، وتجاهلها لمطالب الشعب في الإصلاح والعدالة والعيش الكريم. يظن كثير من قادة السلطة أن صبر الشعب لا ينفد، وأن التوازنات الدولية والإقليمية ستظل تحمي مواقعهم، متناسين أن كل نظام يتجاهل الحقائق على الأرض، وينكر صوت الناس، مصيره الانهيار أو الانفجار.
ما جلب الحرب إلى أوكرانيا لم يكن انحيازها للغرب، بل انفصال واقع القرار الجيوسياسي المحيط بها عن حقائق الجغرافيا والقدرة العسكرية واليوم، يبدو صناع القرار في العراق غير عابئين بالاحتقان الشعبي بسبب الأزمات الخانقة وسوء الإدارة وتكميم الأفواه وتقييد حرية الرأي والتعبير وقمع الحريات العامة بما في ذلك حرية الصحافة. عاجزون عن صون السيادة وترميم الثقة الشعبية عبر محاربة الفساد بالأرقام الموثقة لا بالشعارات. وإذا ما استمر تجاهل الأزمات الداخلية والخارجية، وبقاء الفساد بلا سقف وتكميم الأفواه مستمر، فإن لحظة الفوضى أقرب مما يظن من في المنطقة الخضراء. وكما دفعت كييف ثمن مجازفة لم تحسب عاقبتها، قد يدفع ساسة بغداد ثمنا أشد إذا استمروا في مراهنة خاسرة على صبر شعب أنهكته الأزمات. فكما كان بإمكان أوكرانيا تجنب الحرب بالحوار والتوازن، لا يزال بإمكان الطبقة السياسية العراقية أن تتدارك الكارثة القادمة، إن أرادت أن تنقذ ما تبقى من دولة...
يقف العراق على حافة أزمات وتحديات تذكرنا بأن المكابرة السياسية ليست حكرا على كييف. فالأحزاب الرئيسة الماسكة بالسلطة منذ أكثر من عقدين تمارس بحق العراق ومجتمعاته نمطا عبثيا من المواقف السياسية، والحكومات المتعاقبة لاتزال غير معنية لمواجهة الأزمات الداخلية والصدمات الإقليمية، ومنها: اعتداءات دول الجوار المخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة كاستمرار العمليات العسكرية التركية العابرة للحدود داخل الأراضي العراقية لتصفية الحسابات مع حزب العمال الكردستاني، وتقليل حصة العراق من المياه مما يؤثر على البيئة ويتسبب بجفاف الأهوار وتحول الأراضي الزراعية إلى صحار من دون أن تواجه ردع عراقي حقيقي. وفيما إيران تقطع المياه وتنهب آبار النفط الحدودية وتتدخل في الشؤون العراقية وتعريض أمن العراق ومواطنيه للخطر من خلال تحريض الميليشيات الولائية لتصفية حساباتها مع الولايات المتحدة على أرض العراق. يسلب الكويت حقوق العراق في البر والبحر وينتزع مساحات بمئات الكيلو مترات بما في ذلك "خور عبد الله" المنفذ البحري الحيوي الوحيد للعراق وآبار نفط غنية بمواردها ذات الجودة العالية. بيد إن تراخي الدولة أمام الاعتداءات الخارجية لا ينفصل عن أزماتها الداخلية؛ بل هو انعكاس لعجز بنيوي تشكله ثلاثة ملفات كبرى: الفساد، وانسداد الأفق السياسي، وقمع الحريات. وقد أثبتت الوقائع أن تجاهل القوى والأحزاب الماسكة بالسلطة يفضي إلى كوارث يدفع ثمنها العراقيين قبل الأحزاب وكتلها السياسية.
في سنوات الأخيرة، تحول العراق إلى ساحة مفتوحة للانتهاكات السياسية والقانونية والمالية، ورقعة الفساد اتسعت لتبتلع كل محاولات الإصلاح رغم "تقدم؟" العراق ثلاث نقاط فقط في مؤشر مدركات الفساد وانتقاله إلى المرتبة 140 عالميا. والاقتصاد هش وموارد الدولة مهدورة بسبب الفساد المتفشي هرميا داخل مؤسسات الدولة. التقارير العالمية تبرز كيف تفرغ الخزانة عبر عقود نفطية ملغمة ورشى منتظمة، بينما يظل 70 ٪ من قضايا الفساد إما مغلقة أو معلقة بفعل الضغط السياسي على القضاء. وفيما تقرير هيئة النزاهة لعام 2024 يتحدث عن استرجاع 8.7 مليارات دولار وأحكام طالت 44 وزيرا أو بدرجتهم، إلا أن مراقبين يشككون في مردود هذه الأرقام على الأرض بسبب طوفان الطعون والإفلات من العقاب. وأظهرت تحقيقات هيئة النزاهة حول سرقة سكك الحديد تبديد 18 مليار دولار في مشاريع السكك، وصف بأنها امتداد لسرقة القرن. وكشفت أيضا فضيحة ما يعرف "مسافري الأشباح" استحواذ 151 ألف شخص على 600 مليون دولار من نافذة البنك المركزي لأغراض سفر وهمي.
الحكومة الأوكرانية كانت تظن أن تحالفاتها الدولية كفيلة بحمايتها، لكنها اكتشفت أن صلابة الداخل أهم من أي دعما خارجيا.. السياسيون الماسكون بالسلطة في العراق، يمضون، في مسار مشابه؛ يتجاهل المطالب الشعبية، إضعاف مؤسسات الدولة، والانشغال بالبقاء في السلطة بأي ثمن. لكن الفارق هو أن انهيار الدولة في العراق لن يكون بفعل غزو خارجي، بل بفعل داخلي بطيء ومدمر عنوانه "الإفلات من المسؤولية". إذا لم تتدارك الحكومة العراقية مسارها، فإن الغضب الشعبي المتراكم، والتوترات الإقليمية المتصاعدة، وانهيار ثقة المواطن بالمؤسسات، كلها عوامل قد تفضي إلى لحظة فوضى لا تبقي ولا تذر. ففي السياسة، لا يكفي أن تكون صاحب سلطة، بل يجب أن تكون قادرا على قراءة اللحظة والتاريخ وأي سلطة تقصي العقل، وتسكت النقد، وتهمل صوت الشعب، فإنها تمهد الطريق لانهيارها. وما الحرب في أوكرانيا إلا جرس إنذار لكل من يظن في محمية "الخضراء" أن الغضب والتاريخ لا عقاب لهما.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram