عبد الكريم البليخ
لا يحدث كثيراً أن تصفق قاعةٌ كاملةٌ لإرثٍ قبل أن تصفق لصاحبه. ذلك تماماً ما جرى في "قمة الإعلام العربي" بدبي أواخر أيار الماضي، حين نودي باسم فخري كريم ليتسلّم جائزة "شخصيّة العام الإعلاميّة". بدا المشهد أشبه بردّ اعتبارٍ لصوتٍ اعتاد الوقوف في الصفّ الأخير، منشغلاً بصوغ الحروف لا بجمع الأضواء. وحين اعتلى المنصّة، بدا للوهلة الأولى أنّ الثمانين عاماً انكمشت إلى شغف شابٍ يتحسس جيبه بحثاً عن قلمٍ ضاع قبل نصف قرن.
وُلد فخري كريم في البصرة عام 1942، ودخل نقابة الصحفيين العراقيين في السابعة عشرة ليكون أصغر أعضائها تحت رئاسة الجواهري الكبير. منذ "طريق الشعب" سبعينيات بغداد، مروراً بمجلة "الفكر الجديد" ثم مطابع بيروت ودمشق، مارس الصحافة بوصفها قدراً لا مجرّد مهنة. تَمّ اعتقاله أكثر من مرة، وتعرّض لمحاولات اغتيال في بيروت (1982) ثم بغداد (2003 و2024)، لكنّ رائحة الحبر كانت دوماً أقوى من رائحة البارود.
حين أسس "دار المدى للثقافة والفنون والنشر" في دمشق عام 1994، لم يكن يشيّد دار نشرٍ فحسب، بل يضع أسس امبراطوريةٍ ثقافية عابرة للهويات. تحوّلت "المدى" إلى مظلّة كتبٍ ومجلاتٍ ومهرجاناتٍ يتلاقى تحتها الحداثي والتقليدي، العربي والكردي، اليساري والإسلامي المعتدل. وبعد عودته إلى بغداد عام 2003 أطلق صحيفة "المدى" اليومية، واضعاً نصب عينيه شعاراً بسيطاً: "أن نكتب الحقيقة كما هي، لا كما تُراد". من تلك اللحظة تمدّد اسم "المدى" إلى معارض كتبٍ ومؤتمراتٍ وصندوق تنميةٍ ثقافيٍّ قدّم منحاً لأكثر من خمسمئة مبدع.
في خطاب قصيرٍ اختزل مسيرة ستة عقود، بدا كريم أقرب إلى الاحتفاء بزملائه منه إلى الاحتفاء بنفسه. شكر دولة الإمارات لأنّها "كرّمت العراق كلَّه حين كرّمته"، مُشيراً إلى أنّ دبي اليوم تمارس "ثوريّةً عمرانية" لم تعد الشعارات تكفي لوصفها. وفي قاعةٍ يختلط فيها الإعلاميون بممثلي الحكومات والشركات، ذكّرهم بأنّ "الإعمار الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان القادر على قول لا".
اختيار فخري كريم، أوّل عراقي ينال هذه الجائزة، حمل أكثر من رسالة. فهو اعترافٌ بدور الصحافة العراقية، رغم كلّ ما عانته من حصارٍ وتهميش؛ كما هو اعترافٌ متأخر بجدوى "الثقافة كثورةٍ ناعمة" لا تقل أثراً عن السياسة ولا عن الاقتصاد. كان لافتاً أنّ اللجنة لم تلتفت إلى تاريخه الحزبي بقدر ما التفتت إلى أثره الإعلامي، في إشارةٍ واضحة إلى أنّ زمن الأحكام الأيديولوجية صار وراءنا، وأنّ معيار الفعل هو ما يتركه في حياة الناس.
من يعرف فخري كريم عن قرب يدرك أنّه يحمل ثلاث صفاتٍ قلّما اجتمعت في ناشرٍ واحد: عناد الحرف، إذ يعيد النصوص حتى ترهق محرريه قبل أن ترهقه؛ هوس التفاصيل، من تصميم الغلاف إلى رائحة الورق؛ وشغف التعلّم، إذ يبدّل قناعاته كلّما اختبر الواقع صدقها. لذلك ظلّ "المدى" مشروعاً مفتوحاً: شاشةً تلفزيونيةً أطفأها حين حاول المال السياسي ابتلاعها، ومؤسسةً ثقافيةً قدّمت مهرجانات دمشق وأربيل وبغداد على نفقتها حرصاً على استقلالها.
لعلّ أجمل ما في التكريم أنّه جاء متأخراً بالقدر الكافي ليصبح شهادةَ صمود، لا شهادةَ بداية. فالرجل الذي خرج من العراق سراً أواخر السبعينيات، وعاد إليه مع سقوط الدكتاتورية، اكتشف أنّ الثورة الحقيقية تُقاس بعدد الكتب المطبوعة، وبمساحة الحرية المتروكة على هوامش الصحف. لم يتخلَّ عن حلمه حتى وهو يرى مكاتب "المدى" تتعرض للقصف. كان يقول لزواره: "الخسارة الحقيقية أن نتوقّف عن الإصدار". واليوم، حين يتسلّم جائزةً رفيعةً في بلدٍ حيّرَ العالم بسرعة إنجازاته، يشعر كثيرون أنّ التاريخ يعتذر عن عقودٍ من التجاهل.
تكريم فخري كريم هو، في جوهره، تكريمٌ لفكرةٍ ظلّ يلاحقها: أن يكون للإعلام العربي صوتٌ مستقلٌّ وإنْ سرى عكس التيار. فالرجل الذي شيّد "مدينة المدى" حجراً فوق حجر، وفتح أبوابها لكلّ هواءٍ جديد، يذكّرنا بأنّ مستقبل الصحافة لا يُكتب بالمنشورات السريعة ولا بالمصالح الضيقة، بل بإصرار من يؤمن بأنّ الكلمة قد تغيّر مصيراً وطنياً كاملاً.
في دبي، حيث تُغري الأبراج الزائر برفع رأسه، بدا فخري كريم ثابتاً على الأرض، كأنّه يقول: "كلّ ما تحتاجه الأوطان ناطحةُ سحابٍ واحدة… من الورق". وبين الورق والكاميرا، بين المنفى وحفلة التكريم، تكتمل دائرةٌ عاشها ليمنحها الآن للأجيال القادمة: دائرةُ الإيمان بأنّ الصحافة، في لحظتها الأنقى، هي فنّ بناء المعنى وسط ضجيج العالم.










