*كريستينا كافارا

ترجمة: عدوية الهلالي

أصبحت أوروبا مستعمرة رقمية، معتمدة على عمالقة الحوسبة السحابية الأمريكية.وهذا الاعتماد يضعف سيادتها التكنولوجية وأمنها. ومع ذلك، فإن المواهب والابتكارات والحلول موجودة بالفعل في القارة. وكل ما ينقصها هو رؤية صناعية قوية، ومشتريات عامة طموحة، وثقة في قدراتها على بناء استقلالية رقمية أوروبية.
لسنوات، أكدت الأرقام الصادمة بأن أوروبا تحولت بخبث إلى "مستعمرة رقمية". والأسوأ من ذلك أن هذا الاتجاه يتسارع، وتغذيه آثار نظامية مدمرة. اليوم، يُثري ما يقرب من 80% من إنفاق شركاتها على البرمجيات والخدمات السحابية شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، مما يُؤدي إلى نزيف سنوي في رأس المال والقيمة يُقدر بأكثر من 260 مليار يورو، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها شركة سيجريف. وإلى جانب هذه التكلفة الاقتصادية الباهظة، يُعرّض هذا الخضوع اوروبا لمخاطر جسيمة: تطبيق القوانين الأجنبية خارج الحدود الإقليمية، مثل قانون الحوسبة السحابية الأمريكي أو مرسوم قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية (FISA)، والاحتكار التكنولوجي والتجاري الذي تفرضه الحلول الملكية، والهشاشة الاستراتيجية في ظل نظام عالمي مُتقلب. إن الاعتقاد بأن مجرد تحديد موقع بياناتها على الأراضي الأوروبية، باستخدام تقنيات لا تتحكم بها، يُمثل حلاً هو وهم. فالسيادة الرقمية الحقيقية هي قبل كل شيء تكنولوجية، لأن "القانون هو القانون في نهاية المطاف".
ومع ذلك، فإن هذا الوضع ليس حتميًا ولا نتيجةً لافتقار مُفترض للقدرات الأوروبية. فأوروبا تزخر بالمواهب والابتكارات والشركات المُستعدة لتوفير الأسس التكنولوجية لاستقلالها. وقد ظهرت فيها العديد من التقنيات الرقمية الهيكلية، من شبكة الويب العالمية إلى لغة بايثون، بما في ذلك المحاكاة الافتراضية والسحابة. وكل ما يلزم لبناء هذه السيادة متوفر في أوروبا - أشباه الموصلات، والبنية التحتية للحوسبة، والبرمجيات التعاونية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وغيرها.ولا يكمن جوهر المشكلة في نقص الخبرة ولا في افتراض ضعف حلولها، بل يكمن في انعدام الثقة بقوتها، وفي رؤية مُفرطة في الخجل أحيانًا، تتجسد في عروض مُجزأة، وغياب سياسة صناعية حازمة قادرة على بناء سوق حقيقية لقدراتها على جميع مستويات "مجموعة التكنولوجيا" هذه.
واقتناعًا بضرورة إحداث نقلة نوعية، تتجاوز التحليلات لتبني طموح مُتجدد، وضعنا مقترحات ملموسة، تتمحور حول طموح ثلاثي الأبعاد ولكنه متماسك لذا ندعو إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لضمان أن تصبح المشتريات العامة والخاصة المحرك الرئيسي للتطور التكنولوجي الأوروبي.ويكمن العامل الأقوى والأكثر تأثيرًا في المشتريات العامة وآليات الحوافز للقطاع الخاص. واستنادًا إلى معايير واضحة وموضوعية لتصنيف أي حل على أنه "أوروبي" - بما في ذلك مراعاة المقر الرئيسي، وموقع البحث والتطوير، والرقابة الفعالة على رأس المال في أوروبا، والحصانة من القيود الخارجية - سنطلب من إداراتنا العامة، على المستويين الوطني والأوروبي، الالتزام بتوجيه حصة كبيرة ومتنامية من استثماراتها الرقمية نحو هذه العروض السيادية، حيث يُمثل هذا النهج إعادة توازن استراتيجي حيوي، ولا يتعارض بأي حال من الأحوال مع معاهدات التجارة الدولية. ومن خلال توجيه الطلب بهذه الطريقة، سنوفر لشركاتنا الرؤية والحجم اللازمين للابتكار والنمو والمنافسة على الساحة العالمية. كما نقترح استكشاف برامج حوافز مماثلة لتوجيه الشركات الخاصة نحو الموردين الأوروبيين، وخاصةً فيما يتعلق بإدارة بنيتها التحتية وبياناتها الحساسة.
بعد ذلك، يجب علينا تعزيز عروضنا التكنولوجية بشكل حتمي من خلال تعزيز الرؤية، وتكثيف التعاون، والالتزام الراسخ بمبادئ الانفتاح التي تدعم برمجيات المصدر المفتوح، والمعايير المفتوحة، والبيانات المفتوحة، ونماذج الذكاء الاصطناعي المفتوحة أو المشتركة. ولضمان تلبية القدرات الأوروبية بفعالية لهذا الطلب المتزايد، نوصي باتخاذ عدة إجراءات، إذ يمكن لأوروبا الاعتماد على منظومة المصدر المفتوح الخاصة بها، والتي تُعدّ تاريخيًا وحاليًا الأكثر ديناميكية في العالم، والتي توفر ثروة من العناصر التكنولوجية المُثبتة والحلول الشاملة. وتُمثل هذه الميزة المهمة حليفنا الأمثل في إحباط احتكار الملكية، وضمان الشفافية، وتحفيز الابتكار التعاوني. كما أنها تُمثل عاملًا مُحفزًا لتسريع عملية اللحاق بالركب، لأنها تُمكّننا من كسر الاحتكارات من خلال خلق تأثيرات خارجية إيجابية. ومن خلال إظهار سلوك مثالي، وخاصة من خلال المشتريات العامة التي تعطي الأولوية لهذه الأساليب المفتوحة، ومن خلال تشجيع تشكيل اتحادات من اللاعبين الأوروبيين ــ الشركات الصغيرة والمتوسطة، والشركات متوسطة الحجم، والمجموعات الكبيرة ــ القادرة على بناء حلول متكاملة من هذا النظام البيئي المزدهر، فإننا سوف نجعل العرض الأوروبي أكثر تماسكاً وسهولة في الوصول إليه، وأكثر قدرة على المنافسة والمرونة في مواجهة المنصات الضخمة التي تهيمن على السوق حالياً.
أخيرًا، نحثّ على دعم بروز روّادنا المستقبليين من خلال تمويل استراتيجيّ وفعّال. وبينما يظلّ تحفيز الطلب أولويةً، يبقى الدعم الماليّ الموجّه ضروريًّا لمعالجة بعض نقاط الضعف التكنولوجية الحرجة ودعم صعود اللاعبين الأوروبيين الواعدين.
وهذه المقترحات مستوحاة من سياسات صناعيّة مجرّبة، وهي نفسها التي مكّنت قوى أخرى من بناء نجاحاتها التكنولوجية. ولتبنّيها بالعزيمة اللازمة، يجب على الدول الرائدة، مثل فرنسا، أن تتّخذ الخيار الاستراتيجيّ بوضع الطموح الأوروبيّ في المقام الأوّل، مع إعطاء الأولوية للتماسك والعمل المشترك على الأولويات الوطنيّة. وفي ظل هذه الظروف، يمكن لأوروبا أن تتوقع فوائد جمة: خلق مئات الآلاف من فرص العمل ذات القيمة المضافة العالية، والحفاظ على الثروة الاقتصادية على أرضها، وتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية من حيث الأمن والمرونة، والاستخدام الفعال لقدراتها على الابتكار.
لقد حان الوقت إذن لاتخاذ قرارات شجاعة تتحدى التبعيات المكتسبة وتراهن على قوتنا الإبداعية الجماعية. والصناعة الأوروبية مستعدة للاستثمار والتعاون الوثيق مع السلطات العامة.وهكذا يمكننا أن نجعل أوروبا قوة رقمية مستقلة ومحترمة، تتحكم في مستقبلها التكنولوجي وقادرة على الدفاع عن قيمها في الساحة الجيوسياسية.