سلام حربه
من أخطر الظواهر التي تصل الى حد (المرض) التي يعانيها الفرد العراقي هو الاغتراب، هذا الشعور النفسي الاجتماعي الذي يأخذه بعيدا عن ذاته وعن المجتمع ويجبره على الانكفاء وربما يذوي ويموت دون أن يشعر به الآخرون. الاغتراب من الأمراض الاجتماعية وهو نتاج استغلال الانسان للانسان ليس في الطور الرأسمالي للمجتمع بل في كل مراحل التأريخ، حيث يجرد الانسان من انسانيته بفعل قوى متسلطة تمتلك زمام الحياة وتوجه علاقات الانتاج وتصوغ قواه دون الالتفات الى المهارات والقدرات الفردية وطاقات كل فرد على الانتاج والبذل والابداع والعطاء واختزال الانسان الى جزء من آلية يتحكم بها أصحاب النفوذ صامولة في ماكنة بليدة كبيرة وشعور هذا الفرد بأنه موضوع مبرمج لا دور له وليس مرئيا للحواس بالنسبة للآخرين ولا يستطيع تحقيق بعضا من طبيعته البشرية. هو سلعة يساهم هذا الفرد في انتاجها دون أن يشير له أحد ليصبح منسيا حاله حال السلعة التي أصبحت ريعا في جيب مستثمرها. كل هذه الترددات تنعكس في عقل هذا الفرد ويكون تأثيرها مختلفا من شخص الى آخر حسب وعيه الاجتماعي والنظام الاقتصادي السياسي السائد واتساع مداركه المعرفية فيصاب بنوبة من نوبات الاغتراب التي تختلف درجات اهتزازاتها على مقياس ريختر العقلي تترواح بين الصمت المطبق وبين الجنون وحتى الانتحار. الشخصية العراقية تولد مغتربة وكل ما يحيط بها من مظاهر لا تنتمي الى وقائع حياته اليومية. اذا كان التأريخ عقلا وتجسيدا لوقائع حياة الشعب، فأن العراقي لم يقم بصياغة تأريخه والتحكم بوقائع حياته اليومية ورسم حاضره ومستقبله بل يستهلك ما ينتجه الآخرون من علوم وتقنيات ووسائل عيش.
الاغتراب ليس حديثا بل منذ العصر العباسي الذي أشر هيغل هذا العصر بأنه نهاية التأريخ العربي لأن من صاغ الحياة في العراق والمنطقة أقوام غريبة وقد كان عصرا فارسيا بامتياز، شجع الغرباء أن يطأوا أرض هذا البلد واحتلاله، من دخول المغول بغداد عام 1258م. وتناوب الأقوام الأخرى من بويهين وسلاجقة ودولة الخروف الأسود والخروف الأبيض والمماليك والصفويين والقاجاريين والعثمانيين وكل من يريد أن يختبر عضلات جبروته من البلدان فيكون الميدان في العراق وآخرها في القرن العشرين زمن الاحتلال الانكليزي وطرد العثمانيين من البلد. طيلة هذه الألف عام وحتى ما قبلها لم يكن دور العراقيين سوى أدوات رخيصة بيد المحتلين، حاول البعض منهم أن ينتفض ضد هذه الاحتلالات ولكنه جوبه بقوة وعنف مفرط مما اضطره الى الصمت والترقب وخُلقت لديه جينات من الاغتراب حتى أن علماء النفس وصفوا الشخصية العراقية بأنها صعبة المراس وتختلف عن كل أقرانها من العرب المحيطين لآنه رأى ما لم يره غيره من الاستلاب والمهانة والفقر والحرمان والتحقير وقتل كل النوازع الانسانية لديه حتى أن الاستعمار العثماني الأخير استمر أربعمئة عام وقد طبقوا هنا وبجدارة ما معروف عنهم وأصبح مثلا شائعا بأن (العثماني اذا مشى على أرض سوف لن تنبت زرعا). لم يعرف العراقي يوما شكل السلطة ولا الدولة ولا الحكومة ولم يأخذ رأيه بها يوما ما، كان عبدا مسحوقا عند الخلفاء والملوك والولاة والقادة إن نطق قطعوا لسانه وأن رفع رأسه قطعوا عنقه.
في الاحتلال البريطاني للعراق في القرن العشرين شكل البريطانيون حكومة من ملك ورئيس وزراء ووزراء من الشركس والاتراك وبعض الشخصيات العراقية المقربة من الاحتلال، جاء بهم على مقاسه وعملوا مجلسا للنواب وحرروا البلد صوريا من الانتداب البريطاني عام 1932، فتحت بعض نوافذ الحرية في البلد فتنفس العراقيون الصعداء وشعروا بنسائم حرية هبت من هنا وهناك فتشكلت الجمعيات الانسانية والاحزاب السياسية وتعددت المنتديات الثقافية والسياسية ونزلت الى الشارع بعض الصحف المحلية الوطنية، تبرعمت في النفس العراقية بعض الأمال من أن بالامكان أن يحكم العراقيون أنفسهم ويتحرروا من الأحلاف الغربية التي ربطت مصير هذا البلد وخيراته الى الاستعمار البريطاني وأذنابه فكانت ثورة 14 تموز عام 1958 التي لم تدم سوى أربع سنوات ليدخل البلد في حمامات دم وقمع فاق كل التصورات والحسابات ودفع العراقي ثمن رضاه عن النظام الجمهوري بأن عملوا له حروبا هستيرية حصدت نصف شبابه وسلطوا على البلد نظاما دكتاتوريا هو الأعتى في العالم وقد سلّم رايته أخيرا بيد الاحتلال الأمريكي عام 2003 الذي قام بوضع البلد على طبق من ذهب وتسليمه الى بلدان الجوار ليدخل البلد في دوامة صراع بين القوى الطائفية والعرقية لا زالت ناره مستعرة حتى يومنا هذا ليتشكل ومنذ اثنين وعشرين عاما نظام محاصصة وتوافق خرب البلد وسرق خيراته ورهن مستقبله الى المجهول. الشخصية العراقية تعرضت ومنذ اكثر من الف عام الى كدمات نفسية لم يشف من واحدة منها بل تراكمت كل يوم وأصبح الاغتراب طبقات من الشفرات الجينيه القاتمة في تركيبته البنيوية. أراد التحرر من هذا الكابوس القاتل فانتفض في عام 2019 ضد النظام الطائفي الفاسد الذي عطل الحياة بالكامل وأحرق الزراعة وخرب مكائن الصناعة وعطل القوانين التي عليها أن تحمي الفرد لا أن تستعبده فدفع فاتورة قاسية ما يقرب من ألف شهيد وعشرات الآلاف من الضحايا. هو غريب في بلده حتى من يحكمه لم يسمع بهم يوما وانما جاءوا مع دبابة الاحتلال،
وهيمنت على المجتمع بعض الشخصيات العشائرية التي اشترتها السلطة من مزاد العبيد بثمن بخس. أما نصيبه من الدين الاسلامي ركيزته الروحية فقد تعاظم دور المؤسسات الدينية وظهرت الى الوجود شخصيات دينية غريبة، بينهم من يدمي ذاكرته من أفعال أجدادهم وآبائهم وفتاويهم القاتلة وهم الآن يصولون ويجولون سرقة وتخريبا، وتزاحم أمامه كمرشدين رجال دين بعمائم سود وبيض من أصول ايرانية وهندية وباكستانية وأفغانية ومغولية لا يجيدون النطق بالعربية فأُصيب بالفصام النفسي وهو يعرف أن هذا القرآن الكريم عربيا (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تتقون) سورة يوسف الاية: 2، أو الآية الكريمة (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) سورة ابراهيم الآية: 4. لقد نقل رجال الدين هؤلاء كل التعاليم والطقوس المجوسية والبوذية والهندوسية وكل العقائد التي آمنوا بها في بلدانهم وحشروها على أنها من صلب الدين الاسلامي. بعد هذا الاغتراب في الشخصية العراقية، هل هناك أقسى من هذا الاغتراب..؟ يعيش ويموت العراقي دون أن يُأخذ رأيه وهو فرد من قطيع ينتظر دوره في الجزر، لكن رغم كل هذه المآسي والحياة العسيرة تبقى في نفس العراقي جذوة أمل، لم تنطفأ عبر العصور، تخرجه ليمزق شرنقة الاغتراب ويتنفس الحرية ولو لزمن قصير ليقول أنا حر وأنا من سيصوغ المستقبل..










