TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الجمال لا يموت

باليت المدى: الجمال لا يموت

نشر في: 23 يونيو, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

فيما كنتُ أتنقل بين قاعات متحف ديختورهالن في مدينة هامبورغ الألمانية، إلتمعتْ أمامي واحدة من لوحات الفنان التعبيري أوتو ديكس، كأنها جوهرة أضاءت الصالة الهادئة، فإقتربتُ منها قليلاً لأتبين تفاصيلها التي تُشير الى يوم ثلجي، حيث رسم ديكس مشهدًا شتوياً لعدد من المنازل التي يُحَلِّقُ فوقها سرباً من الغربان. للوهلة الأولى، بدت لي هذه اللوحة مشهدًا بسيطًا لمدينة بمنازل يُغطيها الثلج، لكن حين تأملتُ التكوين جيداً ودققت النظر في التفاصيل، أخذتني اللوحة الى أبعد من موضوع عابر وضعه الرسام على قماشة الرسم، حيث رأيت كيف تمكن ديكس ومن خلال بعض الألوان، أن يجسّد العديد من الرموز والمشاعر والأفكار والمبادئ. فحين نظرتُ الى تكوين وحركة وطريقة رسم الغربان السوداء التي وضعها في أعلى اللوحة، وكيف تحلق وتهبط بسرعة فائقة نحو المنازل، أدركتُ بما لا يقبل الشك بأن ديكس قد جعلها إستعارة رمزية وتعبيرية لطائرات وصواريخ الحرب العالمية الأولى، التي شارك فيها هو نفسه أيام شبابه. وهي أيضاً إدانة للعسكرية النازية بعد استيلائها على السلطة. في هذه اللوحة يتضح لجوء ديكس الى هذا الشكل غير المباشر من الاحتجاج على الحرب بعد أن أحرق النازيون لوحاته لأنها كانت تحتوي على الكثير من النقد والإحتجاج عليهم وعلى سياساتهم وحروبهم.
في العديد من الثقافات تُعتبر الغربان رمزاً للشؤم أو الموت، حيث كان الغراب شاهداً على أول قتل في التاريخ. لهذا استخدم ديكس الغربان هنا كرمزٍ للدمار الناجم عن السلطة والحرب، كذلك عبَّرَ عن الفرق بين الحياة والموت من خلال التباين بين اللون الأسود للغربان، واللون الأبيض للثلج. وقد أراد من كل ذلك أن يرينا هؤلاء الناس البسطاء الذين يعيشون في بيوتٍ باردةٍ مُغطاةٍ بالثلج، ناس يحتاجون الى الدفء، وقد حصلوا في النهاية على النار، لكن أكثر من اللازم، بهيئة قنابل وصواريخ.
يهيمن اللونان الأسود والأبيض على الجو العام للوحة، مع تدرجات رمادية وبعض البني بينهما. التكوين جميل ومليء بالحركة والديناميكية، وطريقة التنفيذ تتميز بالرهافة رغم قتامة الموضوع. حيث نرى الغربان على اليسار، تكسر الصمت، وتنزل عموديًا من أعلى اللوحة، فيما على اليمين، تصعد شجرة عارية، مغطاة بالثلج، في حركة معاكسة لحركة الغربان، وكأنها الحياة التي تنبثق من وسط الموت. وقد شكَّلَتْ أغصان الشجرة زوايا حادة، وهذا ما منح التوازن والانسجام مع حافات المنازل وحركة الغربان. ولإضفاء بعض الدفء على اللوحة، قام ديكس بتلوين بعض البيوت باللون البني الدافئ، كما قام بوضع لمسة من ذات اللون الدافئ على خلفية اللوحة.
مع أن أسلوب الرسم هنا يبدو واقعياً، لكنه يُنبيء من خلال شحنات اللونين الأسود والأبيض بمأساة الحرب وما تتركه في قلوب الناس، وهكذا من خلال ألوان قليلة ومقتصده وضع أمامنا جواً مشحونًا بالخوف والرعب. وبمجرد وقوفنا أمام هذه اللوحة، نشعر بأن شيئاً ما سيكسر هذا الصمت والسكون، تمامًا كما فعلت الغربان عندما هبطت فجأة. مع ذلك، وفي خضم هذا الصمت المخيف الذي يخيم على البلدة، حيث يبدو أن لا حركة ولا أثر للناس، أراد الرسام أن يؤكد أن الحياة لا تزال قائمة حتى في أحلك الظروف، حيث رسم في عمق اللوحة موقداً مشتعلاً قرب أحد المنازل.
إنتهت الحرب، ورحل الرسام إلى العالم الآخر، وتنقلت اللوحة بين أمكان متعددة، حتى وصلتْ في النهاية الى هذا المتحف لتُعرض في هذه الصالة حيث أقف أمامها الآن، وكأنها تقول لي أن الجمال هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يموت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram