د. سعد عزيز عبد الصاحب
تنطوي تجربة التأليف والاخراج المسرحي في بلادنا على تعاون مشترك لعدة عقود خلت بين سلطتي المؤلف والمخرج وجاءت هذه الشراكة والثنائية لتؤسس نصا علائقيا موازيا (نص عرض) بامتياز يحفل بالحوار والجدل العميق بين المبنى والمعنى بين الشكل والمضمون، ولا سلطة الا لصوت الابداع الحق المتكأ على الشفافية والحوار الصاف بين النص والعرض، لان النص قادم من الخشبة وتجلياتها واعرافها، يولد نتيجة امتزاج الخبرة الدرامية بالخبرة المسرحية وبين الخبرتين تقع سيرورة العرض المسرحي وتطوره وديناميكيته، نشأت جذور هذه العلائقية في مسرحنا العراقي المعاصر بوجود مسرح المؤلف الذي انبثق بسيطا بشواغل الكاتب والممثل يوسف العاني في خمسينيات القرن المنصرم بنصوصه في الواقعية النقدية (فلوس الدوه)و(تأمر بيك) و(انه امك يا شاكر)، كل تلك المسرحيات اخرجها (ابراهيم جلال) قبل سفره الى امريكا لدراسة المسرح حيث اظهر من الوهلة الاولى تمسكه بالمؤلف المحلي وبالنص المحلي ايما تمسك وحتى عندما عاد من دراسته في امريكا وعين مدرسا في اكاديمية الفنون لم يذهب للنص العالمي ـ الا لضرورات اكاديمية ـ انما اخذ يرسخ مؤلفا محليا فجلال ليس طارئا في تبنيه لنصوص عراقية فيها ملامح درامية مع ادراكه لضعف البعض منها وقصورها، لانه يعتقد اعتقادا جازما ان نهضة المسرح العراقي المعاصر مرتبطة بقيام النص العراقي ودعمه واسناده، مؤطرا لثنائية ابداعية استمرت لفترة طويلة مع احد طلابه النابهين وهو المؤلف (عادل كاظم) بعروض الطوفان عام 1966 وعقدة حمار 1967 ودائرة الفحم البغدادية التي عرقها كاظم عن النص البريشتي (دائرة الطباشير القوقازية) 1975 ومسرحية مقامات ابي الورد 1977 والمتنبي التي كان اسمها الاول (الزمن المهدور في دير العاقول) الا انها تزامنت مع فعاليات مهرجان المتنبي عام 1978 فتم تغيير الاسم والعنوان الى المتنبي، واخيرا مسرحية الابيض والاسود 1983، شكلت تلك الثنائية نسقا فكريا وجماليا فريدا عمقت من اثر المسرحة وتصورات الخشبة في النص الدرامي وراح النص يُكتب للعرض وليس للقراءة واصبح للنسقين السمعي والبصري مساحة واسعة داخل الارشاد النصي للمؤلف الدرامي ويظهر اثر الحوار واضحا وجليا بين المؤلف والمخرج في نصوص كاظم المطبوعة، فالمغني الشعبي في مسرحية مقامات ابي الورد والذي افرزه العرض ولم يوجد في النص الاساس اقره كاظم عند صدور مجموعته المسرحية مطبوعة، ومن التجارب الاخرى الجديرة بالبحث والتي وقفت على ثنائية المؤلف والمخرج وشراكتها الابداعية تجربة المؤلفة عواطف نعيم مع المخرج عزيز خيون في اكثر من محطة بدءا من مسرحية (لو) 1988و(مطر يمه) 1989و(تقاسيم على نغم النوى) 1992 والذي يجمع هذه النصوص هو انفتاحها على الادب السردي والاتكاء على الحكايتين العراقية والروسية من مناهل سردية خالصة تم تحويلها ضمن مورفولوجيا جديدة لتشكلات الحكاية الى مسرحيات درامية، فاقتبست المعدة والمؤلفة عواطف نعيم من قصة بعنوان (الالم) لتشيخوف مسرحيتها (لو) التي شكلت علامة فارقة في انفتاحها على الطبقة الاجتماعية المقصية والمهملة في المجتمع العراقي (العربنجي) واقتبست من قصة بعنوان (طيور السماء) للقاص فهد الاسدي لتلد مسرحية عنوانها (مطر يمه) وكذلك استهوتها قصة للكاتب (فؤاد التكرلي) عنوانها (الطريق الى المدينة) لتؤلف منها مسرحية (تقاسيم على نغم النوى) وفي عودة اخرى لتشيخوف وادبه القصصي اعدت (نعيم) قصته الشهيرة (ردهة رقم 6)وحولتها الى مسرحية (مسافر زاده الخيال) والفت بعد ذلك مسرحيتي (انظر وجه الماء)و(وابحر في العينين) وهي تاليف خالص دون الرجوع الى مصادر ادبية او سردية معروفة، كل النصوص الدرامية هذه اخرجها المخرج عزيز خيون في شراكة ابداعية استمرت طويلا وانتجت عروضا تجريبية مائزة في انساق المسرحية الشعبية العراقية النظيفة، وحقيقة جاءت العروض المتكئة على سرديات وحكايات وقصص ادبية محلية وعالمية بانساق جمالية وفكرية متقدمة على المستويين السمعي والبصري واستطاعت تلك النصوص الدرامية ان ترتقي بالحكاية السردية في ضوء معالجات ورؤى مغايرة ومبتكرة على صعيد الحبكة والشخصية والحوار والايقاعين السمعي والبصري والجوقة وتشكيلاتها بوصفها نصوص عرض تقدم للخشبة ومواضعاتها وليس للمناضد الادبية، ومن الشراكات الفنية المتميزة والتي اثمرت عن عروض تجريبية مغايرة هي العلاقة الورشوية بين شيخ المجربين (سامي عبد الحميد) والكاتب (عبد الكريم السوداني) فيما يعرف بثلاثية التجريب والتي اسفرت عن ثلاث مسرحيات هن (الى اشعار اخر) 1992 و(الكفالة) 1994 و(شكرا ساعي البريد) 1998 قدمت المسرحيات الانفة لمصلحة فرقة المسرح الفني الحديث وحازت على مشاهدات واسعة، يقول الراحل سامي عبد الحميد في كتابه (الانتقائية والخصوصية في فن المسرح) في معرض حديثة عن مسرحية الى اشعار اخر ما نصه: (بعد انقضاء حرب الخليج الثانية جاءنا الكاتب (عبد الكريم السوداني) بمسودة نص مسرحي قصير لم يضع له عنوانا واقترح علينا تبنيه كأول عمل مسرحي للفرقة بعد التوقف.. قرأنا النص بتلهف ووجدنا فيه مادة خام لنص درامي يلبي طموحنا ويمكن ان يعكس واقعنا المرير بعد الحرب، النص يحكي عن مدرس نزيه مستقيم تجبره الظروف المعاشية الى ان يتولى التدريس الخصوصي لكي يحصل على ما يكفي من المال لاعالة عائلته حيث ان راتبه الشهري جراء عمله كمدرس لا يكفي وعندما يشعر ان لديه مبالغ كبيرة من المال جراء التدريس الخاص يطمع اكثر وذلك عن طريق الدخول الى السوق التجاري حيث يتولى شراء وبيع الملابس وهكذا يتزايد مدخوله المالي ويزداد طمعه راغبا في اكتناز المال الوفير باحثا عن مصادر اخرى غير شرعية حتى يصل الى حالة من الجنون)ويردف عبد الحميد شارحا اليات عمله مع المؤلف: (قمنا اثناء القراءات الاولى على الطاولة بالجوء الى التأليف الجماعي مشهدا بعد اخر، نفكك ونلغي ونركب ونعيد التركيب وهكذا حتى نصل الى القناعة التامة بصلاحية المشهد وتأثيره الدرامي) يبدو ان تأثير المخرج بانساقه الفكرية والفنية في حالتي ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد واضحا على البنية الدرامية للمؤلف وذلك لخبرة المخرج النظرية والعملية في مسرحنا دعته لان يتدخل في جوهر البنية الدرامية بجدلية الهدم والبناء المتكرر للوصول الى الصياغة المثلى تمهيدا لانتاج نص عرض يمتلك اسرار القراءة الاخراجية والرؤية الجمالية للمخرج.
ثنائية التأليف والإخراج المسرحي في العراق
د. سعد عزيز عبد الصاحب تنطوي تجربة التأليف والاخراج المسرحي في بلادنا على تعاون مشترك لعدة عقود خلت بين سلطتي المؤلف والمخرج وجاءت هذه الشراكة والثنائية لتؤسس نصا علائقيا موازيا (نص عرض) بامتياز يحفل بالحوار والجدل العميق بين المبنى والمعنى بين الشكل والمضمون، ولا سلطة الا لصوت الابداع الحق المتكأ على الشفافية والحوار الصاف بين النص والعرض، لان النص قادم من الخشبة وتجلياتها واعرافها، يولد نتيجة امتزاج الخبرة الدرامية بالخبرة المسرحية وبين الخبرتين تقع سيرورة العرض المسرحي وتطوره وديناميكيته، نشأت جذور هذه العلائقية في مسرحنا العراقي المعاصر بوجود مسرح المؤلف الذي انبثق بسيطا بشواغل الكاتب والممثل يوسف العاني في خمسينيات القرن المنصرم بنصوصه في الواقعية النقدية (فلوس الدوه)و(تأمر بيك) و(انه امك يا شاكر)، كل تلك المسرحيات اخرجها (ابراهيم جلال) قبل سفره الى امريكا لدراسة المسرح حيث اظهر من الوهلة الاولى تمسكه بالمؤلف المحلي وبالنص المحلي ايما تمسك وحتى عندما عاد من دراسته في امريكا وعين مدرسا في اكاديمية الفنون لم يذهب للنص العالمي ـ الا لضرورات اكاديمية ـ انما اخذ يرسخ مؤلفا محليا فجلال ليس طارئا في تبنيه لنصوص عراقية فيها ملامح درامية مع ادراكه لضعف البعض منها وقصورها، لانه يعتقد اعتقادا جازما ان نهضة المسرح العراقي المعاصر مرتبطة بقيام النص العراقي ودعمه واسناده، مؤطرا لثنائية ابداعية استمرت لفترة طويلة مع احد طلابه النابهين وهو المؤلف (عادل كاظم) بعروض الطوفان عام 1966 وعقدة حمار 1967 ودائرة الفحم البغدادية التي عرقها كاظم عن النص البريشتي (دائرة الطباشير القوقازية) 1975 ومسرحية مقامات ابي الورد 1977 والمتنبي التي كان اسمها الاول (الزمن المهدور في دير العاقول) الا انها تزامنت مع فعاليات مهرجان المتنبي عام 1978 فتم تغيير الاسم والعنوان الى المتنبي، واخيرا مسرحية الابيض والاسود 1983، شكلت تلك الثنائية نسقا فكريا وجماليا فريدا عمقت من اثر المسرحة وتصورات الخشبة في النص الدرامي وراح النص يُكتب للعرض وليس للقراءة واصبح للنسقين السمعي والبصري مساحة واسعة داخل الارشاد النصي للمؤلف الدرامي ويظهر اثر الحوار واضحا وجليا بين المؤلف والمخرج في نصوص كاظم المطبوعة، فالمغني الشعبي في مسرحية مقامات ابي الورد والذي افرزه العرض ولم يوجد في النص الاساس اقره كاظم عند صدور مجموعته المسرحية مطبوعة، ومن التجارب الاخرى الجديرة بالبحث والتي وقفت على ثنائية المؤلف والمخرج وشراكتها الابداعية تجربة المؤلفة عواطف نعيم مع المخرج عزيز خيون في اكثر من محطة بدءا من مسرحية (لو) 1988و(مطر يمه) 1989و(تقاسيم على نغم النوى) 1992 والذي يجمع هذه النصوص هو انفتاحها على الادب السردي والاتكاء على الحكايتين العراقية والروسية من مناهل سردية خالصة تم تحويلها ضمن مورفولوجيا جديدة لتشكلات الحكاية الى مسرحيات درامية، فاقتبست المعدة والمؤلفة عواطف نعيم من قصة بعنوان (الالم) لتشيخوف مسرحيتها (لو) التي شكلت علامة فارقة في انفتاحها على الطبقة الاجتماعية المقصية والمهملة في المجتمع العراقي (العربنجي) واقتبست من قصة بعنوان (طيور السماء) للقاص فهد الاسدي لتلد مسرحية عنوانها (مطر يمه) وكذلك استهوتها قصة للكاتب (فؤاد التكرلي) عنوانها (الطريق الى المدينة) لتؤلف منها مسرحية (تقاسيم على نغم النوى) وفي عودة اخرى لتشيخوف وادبه القصصي اعدت (نعيم) قصته الشهيرة (ردهة رقم 6)وحولتها الى مسرحية (مسافر زاده الخيال) والفت بعد ذلك مسرحيتي (انظر وجه الماء)و(وابحر في العينين) وهي تاليف خالص دون الرجوع الى مصادر ادبية او سردية معروفة، كل النصوص الدرامية هذه اخرجها المخرج عزيز خيون في شراكة ابداعية استمرت طويلا وانتجت عروضا تجريبية مائزة في انساق المسرحية الشعبية العراقية النظيفة، وحقيقة جاءت العروض المتكئة على سرديات وحكايات وقصص ادبية محلية وعالمية بانساق جمالية وفكرية متقدمة على المستويين السمعي والبصري واستطاعت تلك النصوص الدرامية ان ترتقي بالحكاية السردية في ضوء معالجات ورؤى مغايرة ومبتكرة على صعيد الحبكة والشخصية والحوار والايقاعين السمعي والبصري والجوقة وتشكيلاتها بوصفها نصوص عرض تقدم للخشبة ومواضعاتها وليس للمناضد الادبية، ومن الشراكات الفنية المتميزة والتي اثمرت عن عروض تجريبية مغايرة هي العلاقة الورشوية بين شيخ المجربين (سامي عبد الحميد) والكاتب (عبد الكريم السوداني) فيما يعرف بثلاثية التجريب والتي اسفرت عن ثلاث مسرحيات هن (الى اشعار اخر) 1992 و(الكفالة) 1994 و(شكرا ساعي البريد) 1998 قدمت المسرحيات الانفة لمصلحة فرقة المسرح الفني الحديث وحازت على مشاهدات واسعة، يقول الراحل سامي عبد الحميد في كتابه (الانتقائية والخصوصية في فن المسرح) في معرض حديثة عن مسرحية الى اشعار اخر ما نصه: (بعد انقضاء حرب الخليج الثانية جاءنا الكاتب (عبد الكريم السوداني) بمسودة نص مسرحي قصير لم يضع له عنوانا واقترح علينا تبنيه كأول عمل مسرحي للفرقة بعد التوقف.. قرأنا النص بتلهف ووجدنا فيه مادة خام لنص درامي يلبي طموحنا ويمكن ان يعكس واقعنا المرير بعد الحرب، النص يحكي عن مدرس نزيه مستقيم تجبره الظروف المعاشية الى ان يتولى التدريس الخصوصي لكي يحصل على ما يكفي من المال لاعالة عائلته حيث ان راتبه الشهري جراء عمله كمدرس لا يكفي وعندما يشعر ان لديه مبالغ كبيرة من المال جراء التدريس الخاص يطمع اكثر وذلك عن طريق الدخول الى السوق التجاري حيث يتولى شراء وبيع الملابس وهكذا يتزايد مدخوله المالي ويزداد طمعه راغبا في اكتناز المال الوفير باحثا عن مصادر اخرى غير شرعية حتى يصل الى حالة من الجنون)ويردف عبد الحميد شارحا اليات عمله مع المؤلف: (قمنا اثناء القراءات الاولى على الطاولة بالجوء الى التأليف الجماعي مشهدا بعد اخر، نفكك ونلغي ونركب ونعيد التركيب وهكذا حتى نصل الى القناعة التامة بصلاحية المشهد وتأثيره الدرامي) يبدو ان تأثير المخرج بانساقه الفكرية والفنية في حالتي ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد واضحا على البنية الدرامية للمؤلف وذلك لخبرة المخرج النظرية والعملية في مسرحنا دعته لان يتدخل في جوهر البنية الدرامية بجدلية الهدم والبناء المتكرر للوصول الى الصياغة المثلى تمهيدا لانتاج نص عرض يمتلك اسرار القراءة الاخراجية والرؤية الجمالية للمخرج.

نشر في: 29 يونيو, 2025: 12:01 ص









