ثائر صالح
- 1 -
انتهيت قبل فترة من زيارة لعدد من المدن الألمانية مررت خلالها على مدن دريسدن ولايبسِج وهاله في ولاية زاخسن (سكسونيا)، وأرفورت عاصمة ولاية تورينغيا، والمدن الفرانكونية ڤُرتسبورغ وبامبرغ في ولاية بايرن (باڤاريا)، وأخيراً مدينة ماغدَبورغ عاصمة ولاية زاخسن - آنهالت. فقد هبطت في مطار براندنبورغ الجديد ببرلين ومنه تنقلت بالقطارات بعد اقتنائي التذكرة الشهرية المسماة "تذكرة ألمانيا" التي تسمح لحاملها باستعمال المواصلات المحلية في الولايات وما بينها علاوة على المواصلات الداخلية في المدن في كل ألمانيا دون قيود.
كنت أحلم بمثل هذه الرحلة منذ أيام الصبا. فقد قرأت في كتاب "الموسيقى والحضارة" (1938) الذي ألفه العالم الموسيقولوجي الأمريكي ألماني الأصل هوغو (هوجو) لايختنتريت (1874 - 1951) الكثير عن المدن الألمانية هذه وجولته فيها فقررت وقتها أنني سوف أقوم بجولة مشابهة. صدر الكتاب بترجمة أحمد حمدي محمود في القاهرة سنة 1964، ويربط المؤلف فيه الموسيقى بالفنون الاخرى والتاريخ الثقافي والسياسي للبلاد مما يساعد على وضع ما نسمعه من موسيقى في إطار تاريخي حضاري ملموس، لكنه في المقابل يبدي تعصبا واضحاً للموسيقى الألمانية عموما.
وهذه هي أُولى السفرات، إذ لا يستطيع المرء زيارة الكثير من المعالم المرتبطة بالموسيقى في ألمانيا خلال فترة وجيزة. الهدف الأول لي كان مدينة لايبسِج، مدينة باخ وغوته والكثير غيرهم من موسيقيين وشعراء وكتاب. وكان التوقيت مناسباً إذ تصادفت الزيارة مع مهرجان باخ السنوي الذي بدأ يوم 12 حزيران الجاري وانتهى في الثاني والعشرين منه. وتمكنت من الحصول على تذاكر لحضور الحفل الافتتاحي المتميز للفائز بمسابقة باخ للعزف على البيانو للشباب التي أقيمت في آذار الماضي الچيكي يان چْمَيْلا (21 سنة). كان الحفل في قاعة غڤاندهاوس الشهيرة مقر واحدة من أقدم الفرق الألمانية وأشهرها. أعتبر حضور هذا الحفل انجازا كبيرا، فقد نفذت كل تذاكر حفلات الافتتاح والكونسرتات المهمة من زمن بعيد، إذ تنظم شركات سياحية متخصصة رحلات جماعية وتقتني الكثير من تذاكر الحفلات للمهتمين بموسيقى باخ والمهرجان القادمين من أوروبا وبريطانيا وأمريكا واليابان وغيرها من بقاع العالم وتتهيأ لها قبل سنة على الأقل. وقد قدم العازف الشاب عددا من القطع الإضافية بعد انتهاء البرنامج الأصلي للحفل إثر التصفيق المتواصل من الجمهور الذي وقف للعازف.
وقد تحول مركز المدينة إلى مهرجان دائم بباخ خلال أيام المهرجان، خاصة في ساحة السوق القريبة من متحف باخ وكنيسة توماس الشهيرة حيث عمل باخ 28 سنة حتى وفاته، وتقام الأمسيات الموسيقية على المسرح الكبير، بينها امسية جميلة لفرقة ساراباند التي تمزج موسيقى باخ بالموسيقى العربية.
لكن الموسيقى في لايبسِج لا تقتصر على باخ (ومندلسون وشومان وڤاغنر وغريغ وهانس آيزلر وآخرين ممن ارتبطوا بها بشكل وثيق)، فقد اختتم في قبل أربعة اسابيع مهرجان شوستاكوفيچ (من 15 أيار حتى 1 حزيران) الذي اقيم على شرف الذكرى الخمسين لوفاة المؤلف الروسي الكبير بمشاركة فرقة بوسطن السيمفونية وفرقة غڤاندهاوس وعدد من كبار قادة الأوركسترا والمغنين، وبين ما قدم أوبرا شوستاكوفيچ "ليدي ماكبث من متسنسك"، وهو عمل يندر تقديمه.
سوف أعرض بشيء من التفصيل محطات بارزة من هذه السفرة الجميلة في الأسابيع القادمة.