هاشم شفيق
تمتد مسيرته الصحافية والثقافية والفكرية والسياسية، إلى أكثر من خمسة عقود، إنه الكاتب والناشر والإعلامي المعروف فخري كريم، الذي سعى خلال مسيرته الطويلة إلى ثقافة تنويرية، عبر عقل مشع تربّى في السوح الماركسي، فهو مثقف من نوعية نادرة، احتفى طوال حياته بالحركة الإبداعية والثقافة الإعلامية، دون كلل أو وهن أو تنصّل من المهام، بل بقي مواصلاً نور صبواته يوماً بعد يوم، منذ فتوّته وحتى الآن، وهو لا يزال يواصل حمل الشعلة الثقافية، لتسطّر عبر مشوارها الطويل الحافل بالتحوّلات الجمالية والفكرية، المزيد من الطموحات المبتكرة، التي اجترحتها مخيّلته الفكرية والصحافية، من إصدار الصحف الأولى والأكثر انتشاراً.
ففي بداية توهّجه الإعلامي وهو فتى في الثلاثين كان مدير تحرير أهم صحيفة عراقية، في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، هي جريدة "طريق الشعب"، لسان حال اليسار العراقي والطبقات المهمّشة وصوت المثقفين والمتنوّرين، والفنانين والأدباء الصاعدين، المهمومين بعوالم التجديد والتحديث والاختلاف، في سَوْرة من حركية الإبداع الأدبي والفني في العراق حينذاك، فضلاً عن تأسيسه لصحيفة "الفكر الجديد" لتصدر حينها بنسختيها العربية والكردية. هنا يتضح نشاطه وسعيه المبكر إلى التطلع نحو آفاق أخرى ومتقدّمة، مستعيناً بخياله الواسع والفني والعملي في ترشيد العالم الثقافي، وصولاً إلى بنائه وطنياً، ووفق رؤية راديكالية يسارية، مدفوعة بحس الناس البسطاء، والرؤية العالمية لعالم اليسار الأحدث، الأكثر تطلعاً وشمولاً، من أجل تنمية العقل الإنساني الطامح إلى البناء والتغيير الجماليين، في عالم الأدب والصحافة والفن، وعموم الحقول الإبداعية الأخرى للكتابة.
ومن هنا تمّ تكريمه عربياً في دبي، كونه "شخصية العام الإعلامية" على كل منجزه الإعلامي، بدءاً بتأسيس الصحف والمجلات الأدبية والفكرية والفلسفية، كتأسيسه لمجلة "النهج"، ورعايته لمجلة "الثقافة الجديدة" في دمشق في مرحلة التسعينيات من القرن المنصرم، ناهيك عن تأسيسه لدار النشر المعروفة "دار المدى" ولمجلتها "المدى" أيضاً المصاحبة للدار حينذاك، والتي ترأس تحريرها الشاعر الراحل سعدي يوسف، وظل فخري كريم على هذا النسق من النشاط الإعلامي والثقافي، ساعياً في دروب النشر والتأسيس والكتابة في كل من دمشق وبيروت وبغداد، وصولاً إلى العاصمة التشيكية براغ، حيث مواصلة مجلة "النهج" دورها العالمي في نشر الفكر اليساري والعلوم الفلسفية الإنسانية، حتى زوال نظام البعث في العراق، ثم عودته إلى بغداد ليؤسس هذه المرة صحيفة "المدى"، بعد غياب قسري دام أكثر من ربع قرن عن بلده العراق، ناقلاً في الآن ذاته مكاتب "دار المدى" للنشر من دمشق إلى بغداد، ليفي بما كان يؤكد عليه طوال حياته، من تسخير دورالإعلام والثقافة والأدب في بلده العراق، ويفي كذلك بالتزاماته الوطنية، تجاه تراب مسقط الرأس وحضارته الأولى.
إذن تكريم الكاتب والناشر والإعلامي البارز فخري كريم، وإن جاء متأخراً، هو تكريم لرموز الثقافة الإعلامية والإبداعية العراقية والعربية، والمُكرّم هنا يستحق أكثر من تكريم، كونه أكثر من شخص، وكما قال الشاعرعروة ابن الورد: "أوزّع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراحَ الماء والماءُ باردُ"، فهو شخصية موزّعة في مفكر يساري، وكاتب حر ذي رؤية عابرة للطوائف والمذاهب والهُويات والأديان، وصحافي وناشر، وإعلامي قادر على إدارة مؤسسات إعلامية عدة، مثل صحيفة ومجلة ومركز أبحاث ودار نشر، فضلاً عن كونه دبلوماسياً محنّكاً وقديراً ومن جبلّة خاصة، دون أن يتخرّج من كلية للقانون، بل تخرّج من رصيف الكتب والخلايا الحزبية وساحات النضال السياسي، إذ له أواصر وعلاقات مع رؤساء وسفراء دول، ومع مؤسسي أحزاب، ورجال حكم، وقيادات سياسية عديدة، خصوصاً الفلسطينية، دون أن ننسى علاقاته الواسعة بطيف كبير من الكتاب والشعراء والفنانين العرب، وله كتب عديدة صدر أغلبها عن "دار المدى"، آخرها كتابه الجديد الصادر حديثاً "ملامح زمن".
الكتاب مكرّس بمجمله عن سيرته المختلطة بسيرة أصدقاء أحبّهم وسار معهم طويلاً في دروب الحياة المتشعّبة، مقتسماً وإياهم التفاصيل اليومية والرفقة، والسهر الأدبي والفني والسياسي، وقد رحل أغلبهم عن عالمنا. رفقة توزّعت بين شعراء ومفكرين وثوار وأدباء وباحثين وفلاسفة ومثقفين وسياسيين ورؤساء وروائيين وممثلين، عراقيين وعرب وعالميين. فقد كتب عن الرئيس حسني مبارك وجلال الطالباني ومسعود البارزاني وأردوغان والسيستاني ونيلسون مانديلا، وعن مناضلين وثوريين مغمورين مثل سائق قطار الموت عبد عباس المفرجي، وهديب الحاج حمود وسالم عبيد النعمان، وأيضا جال قلمه ليمر على فنانة وممثلة بحجم نادية لطفي، وعلى الممثلة العالمية أنجلينا جولي والمعمارية زها حديد، وكذلك السياسية هناء إدوارد ونزيهة الدليمي وتمارا الجلبي وغادة العاملي التي أمست عقيلته. كما تناول قلمه كتّاباً من أمثال جابر عصفور وهادي العلوي، وعلي الشوك ومحمد دكروب وهاني فحص، وطلال سلمان، وروائيين من أمثال عبد الرحمن منيف وغائب طعمة فرمان وجيوكندا بيلي. وتطرق قلمه إلى الشعراء أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش ومظفر النواب ومحمد سعيد الصكار وفوزي كريم، وهناك الكثير من الأسماء التي لا يستطيع هذا الحيز الإلمام بها والإشارة إليها، كون علاقات فخري كريم متشعّبة ومتداخلة ومرتبطة بوشائج وخيوط، تمتد على طول مسيرته التاريخية الناجحة عموماً، رغم كل ما لاقته من مشاكلة ومساجلة ومنابزة من قبل أطراف عديدة، سياسية وثقافية وحزبية، وبالمقابل لاقت ترحيباً وقبولاً، بل تبجيلاً من قوى تقدّر الشأن الثقافي والإبداعي، وتعرف ما قدّمه فخري كريم للثقافة العراقية والعربية وحتى العالمية، أقول العالمية، ذلك أن دار نشره قد سعت منذ تأسيسها إلى الانفتاح، على آداب وثقافات وأفكار ورؤى وفلسفات العالم.
عن نادية لطفي يقول في كتابه "ملامح زمن": "تعرّفت عليها خلال حصار بيروت في عام 1982، لم تخل زيارة لمصر من موعد معها، أتابع فيه ما تنشغل به بعد أن اختارت لها الابتعاد عن الأضواء وأرادت لجمهورها أن يحتفظ لها بصورتها البهية، اختار لها لقب "الحلوة" لتظل فتاة أحلام جيل البهجة والرومانسية المنفتحة على المستقبل".
عرفت فخري كريم عن كثب منذ كنت يافعاً، عاملاً في صحافة اليسار العراقي ولغاية الآن، عرفته يقف إلى جانب الصداقة، ولاسيّما في الحالات الطارئة التي تحدث لبعض أصدقائه، كالإهمال والنسيان والتجاهل والمرض الذي يلمّ بهم بغتة، وحتى لو اختلف معهم في زاوية حياتية وسياسية في يوم ما، فهو أول من يسارع إذا فاجأت المنيّة أحدهم، لتقديم شكل ما من أشكال الوفاء الذي يستطيع اجتراحه، لجعل الخاتمة، أن تكون هانئة وكريمة، ولم يكن هذا الكتاب الذي بين يدينا إلا نوعاً من أنواع الوفاء، تجاه أصدقائه الراحلين، ومن تبقى منهم على قيد الحياة، وهم أقليّة قليلة.
إضاءات لملامح زمن

نشر في: 29 يونيو, 2025: 12:03 ص









