حسن الجنابي
المحامية فرانشيسكا البانيزي، بجرأة نادرة، وشجاعة غير مسبوقة، قدمت في يوم 3 تموز 2025 شهادتها الدامغة أمام مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في جنيف. فبرغم الضغوطات والتشويه والتهديدات، بما في ذلك من قبل الحكومة الأمريكية، أدانت البانيزي إسرائيل عن طريق تقديم القرائن والأدلّة، وليس الخطابات، في تقرير مفصل ملحق به أكثر من 200 وثيقة.
شخّص التقرير بالأسماء حوالي 60 شركة من الشركات الغربية الكبرى المعروفة باعتبارها، متورطة بحرب الإبادة الجارية منذ عشرين شهراً في غزة، وبأنها (أي الشركات) حققت أرباحاً أكثر مما كانت تحققه قبل اندلاع حرب غزة، وعلى حساب الحقوق الفلسطينية وأسهمت بتدمير مدينة عريقة بهمجية ووحشية تجري أمام الكاميرات.
كما فضحت البانيزي في تقريرها "مؤسسة غزة الإنسانية"، وأسمتها "مصيدة الموت" وهي منظمة إسرائيلية -أمريكية أدواتها التنفيذية، الى جانب جيش الاحتلال، مرتزقة أمريكان أوكلت لها مهمات توزيع الأغذية في غزة بعد تحريم إسرائيل لعمل وكالة الغوث الأممية المعروفة (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط- أونروا) والعاملة في ميدان الإغاثة الإنسانية منذ عام 1949. هذه المنظمة الإجرامية اتهمها في تغريدة له قبل أيام السيد جوزيب بوريل، المسؤول السابق للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوربي، بأن مرتزقتها قتلوا بصورة متعمدة 550 مدنياً فلسطينياً من الذين حضروا الى مكان توزيع الأغذية المزعومة بناءً على تعليماتها، خلال شهر واحد.
لم يسبق لأي تقرير أممي، او مداخلة بهذا المستوى والمضمون والوضوح أن قُدّم على منصات الأمم المتحدة منذ تأسيسها الى اليوم. وقد اغتيل رجال قدمّوا تقاريراً، أو فسحوا في المجال للبحث قليلاً تحت سطح الأحداث في فلسطين، وبمضامين قد لا تتعدى اثارة الشبهات أو تدعو للبحث والتحقيق في ممارسات قمعية قامت بها قوات الاحتلال في فلسطين.
اتخذت الاغتيالات أشكالاً متعددة، منها الاغتيال الجسدي، كما جرى في عام 1948 للمبعوث الأممي الكونت السويدي فولك برنادوت في القدس، بسبب مقترحه بوضع حدّ للهجرة اليهودية الى القدس والاحتفاظ بها تحت السيادة الفلسطينية، أو اغتيالاً سياسياً ووظيفياً أو حرماناً من الوظائف العامة والأممية، أو تشويهاً للسمعة المهنية وشيطنة الشخصية، أو ما يسمى باللغة الانجليزية (Character assassination) كما جرى للرئيس النمساوي كورت فالدهايم، الذي شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة والذي أدينت في وقته في العام 1975 الحركة الصهيونية، باعتبارها حركة تمييز عنصري، أو الرئيسة التنفيذية السابقة للأسكوا السيدة ريما خلف، التي أجبرت على تقديم استقالتها من الوظيفة، بسبب تمويل الأسكوا لتقرير عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الأراضي المحتلة خلص الى وجود "تمييز عرقي" في فلسطين المحتلة، ورفضت سحب التقرير من وثائق الأسكوا، أو القاضي كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الذي قدم لائحة اتهام بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة ضد رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعه، وحالياً المحامية الإيطالية الشجاعة فرانشيسكا البانيزي التي تشغل وظيفة "المقرر الخاص لحقوق الانسان في الأراضي المحتلة" بسبب مواقفها العلنية المعروفة وتوثيقها للجرائم المرتكبة في فلسطين المحتلة وخاصة في غزة، وغيرهم كثيرون.
قدمت السيدة البانيزي تقريرها أثناء مناقشة البند السابع من أجندة اجتماع مجلس حقوق الانسان. وقد سبق أن كتبت في مرات سابقة على صفحات المدى، وفي كتابي المعنون "تحديات حقوق الانسان في العراق" عن مجلس حقوق الانسان واجتماعاته التي تعقد ثلاث مراتٍ في السنة، في آذار وحزيران وأيلول من كل عام، ما عدا الاجتماعات الاستثنائية التي تعقد في حالات الضرورة بطلب من 16 عضو أو أكثر من أعضاء المجلس.
تكون أجندة الاجتماعات الدورية الثلاث ثابتة بعشرة بنود، وأن بندها السابع يختص بالوضع الفلسطيني. وهنا تحت هذا البند قدمت فرانشيسكا البانيزي تقريرها الصادم بعنوان "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية" بعد ان حاولت إسرائيل والولايات المتحدة منعها من ذلك. حتى أن الولايات المتحدة طلبت من الأمين العام أنطونيو غوتيريش تسريحها من عملها في المجلس في تدخل مشين بشؤون الأمم المتحدة، وبالأخص مجلس حقوق الانسان الذي انسحبت منه الولايات المتحدة مرتين في السابق إثر عزلتها السياسية في أروقة المجلس عند مناقشة مواضيع الأجندة الرئيسية وخاصة الوضع الفلسطيني.
وصفت البانيزي الوضع في غزة بأنه "مروع" وأن ما يجري هناك هو "أقسى إبادة جماعية في التاريخ الحديث". وضمّنت في تقريرها أسماء مصارف وشركات عالمية متخصصة في قطاعات عسكرية ومالية وانشائية ومصرفية وتكنولوجية وقطاعات مختلفة أخرى، معتبرةً إياها تدعم "الاحتلال غير القانوني وحملة الإبادة المستمرة" التي تقوم بها إسرائيل ومنها: شركة مايكروسوفت، وكاتربلر، وهيونداي، وفولفو، ولوكهيد مارتن، وغوغل، وأمازون، وقالت أن الشركات تقوم بأنشطة تجارية متواطئة في الجرائم الدولية الجارية في فلسطين. وحثّت في تقريرها المحكمة الجنائية الدولية على التحقيق ومحاكمة المديرين التنفيذيين للشركات عن أدوارهم في الجرائم الدولية، بما في ذلك الإبادة الجماعية والفصل العنصري.
لقد أثبتت البانيزي، بلباقة عميقة في تقريرها وفي مؤتمرها الصحفي الذي أعقب تقديم التقرير، الكيفية الإجرامية التي تحول فيها "اقتصاد الاحتلال" المربح الى "اقتصاد الإبادة" الأكثر ربحيةً للشركات العالمية وللاقتصاد الإسرائيلي.
أما الصهاينة وداعموهم في الغرب فقد شددوا من حملاتهم واتهاماتهم للسيدة البانيزي بمعاداة السامية وكراهية اليهود، وغير ذلك من تهم جاهزة لتخويف الناس وقمع حرية التعبير وتشويه السمعة.
وهنا أود تسجيل مخاوفي على حياة هذه السيدة العظيمة، إذ قد يقوم شخص متطرف أو جهاز سرّي باغتيالها كما اغتيل السابقون.










