علاء المفرجي
صدر حديثاً (2025) للدكتور خالد السلطاني كتاباً جديدا بعنوان "العمارة الإسلامية في بلاد ما وراء النهر: تميز المقاربة وتنويع الخطاب"؛ وقد جاء بـ 584 صفحة من القطع الكبير وبالالوان، مع غلاف سميك. وصدر عن دار الاديب في عمان/ الاردن. والكتاب اياه، وكما يشير المؤلف، هو ".. قراءة في منتج العمارة الاسلامية، ومحاولة تأويلها وابراز قيمها وخصائصها المميزة، لنكون من ضمن الروافد المهمة والاساسية في اثراء العمارة العالمية ومنتجها الابداعي". ويضيف بانه كان".. دائما، ولازلت، اردد بان منتج "العمارة الإسلامية"، بالنسبة اليّ، يمثل "هوية وانتماء"، ولكن بمفهومهما الثقافي، الذي اعتبرته في احدى كتاباتي "ينأى بي عن الغطرسة والتبجح، ويجنبني الإحساس بعدم التكافؤ مع الآخر".
يطمح الكتاب، المكرس لعمارة "بلاد ما وراء النهر"، الى اظهار قيمة النماذج التصميمية، التي اجترحت هناك، باقتران واضح ما بين خصوصية المكان، وخاصية الزمان، وتبيان أهميتها المهنية بكونها احدى تمظهرات العمارة الإسلامية، كنوع من تميز لمقاربة مهنية، وكإسهامه في تنويع الخطاب الإبداعي لذلك المنتج الراقي. لكن المؤلف، طمح، ايضاً، علاوة على ذلك، الى إمكانية التفسير والتأويل لقيم عناصر تلك العمارة المجترحة، اتساقاً مع الايمان من ان تلك العمارة تمثل موضوعا قيماً لذاتها، لكنها تغدو اكثر أهمية وقيمة لو انها اثرت على الممارسة التصميمية اللاحقة، خالقة بذلك أرضية لامكانات التواصل والتفاعل، عن طريق خلق نوع من "تناصيه" Intertextuality، تكفل لظهور مقاربات خلاقة، تتمرد على مفهوم "مركزية" المعنى الواحد، والفهم الواحد لما تم اجتراحه من منتج معماري. ويورد المؤلف في هذا الصدد مثالاً، وان كان وحيداً، لكنه يبقى تمثيلا عن أهمية الظاهرة التأويلية هذه، ويتطلع ان يكون حضورها في نصه الكتابي، بمثابة تعبيرا واضحا عن طبيعة تلك الإمكانات في التأثير اللاحق على سياق الممارسات المعمارية الراهنة.
ينطوي منتج العمارة الإسلامية، وكما هو معروف، على تنويع مدهش لمدارس ومقاربات اسلوبية مختلفة. وهذا "التنوع ضمن الوحدة"، ما انفك يبقى من اساسيات خصائص هذا المنتج الإبداعي واسماً إياه بسمات ميزة. وتعد مدرسة "عمارة بلاد ما وراء النهر" احدى المدارس المؤثرة في هذا المنتج المعماري، والاضافة الإبداعية المهمة في ذخيرة تلك العمارة. ورغم قيمة واهمية ما انتج من عمارة تتسم على فرادة تصميمية واضحة، واجتراح تكوينات تصميمية خلاقة في ذلك الإقليم، فان منتج تلك المدرسة، لم ينل، مع الأسف، كما يرصد المؤلف، اهتماما كافيا من قبل كثر من الدارسين والمهتمين في العمارة الإسلامية. وترجع بواعث هذا التغاضي والإهمال غير المبررين الى اسباب عديدة، اشتركت فيما بينها، لجعل "دائرة الاهتمام المهني" بعيدا عنها. ولعل الحالة "الجيو سياسية" وظرفها، ساهما مساهمة مؤثرة في تكريس "غربة" هذا الإنتاج المميز، وعدم انتشاره او معرفته في أوساط علمية واسعة. فمن النادر، حسب علمنا، ان تجد منشورات خاصة تتعاطى مع هذا المنتج لوحده، في ادبيات النشر العلمي العربي، ان لم نقل عدم وجودها اصلاً. وهذا، يمثل، في اعتقادنا، نقصا معرفيا كبيرا، وقصورا في ادراك ما تم إنجازه في منتج العمارة الإسلامية المتنوع.
وكما اشار المؤلف فان اهتمامه بعمارة بلاد ما وراء النهر، يعود الى فترة زمنية بعيدة، وتحديداً الى مطلع السبعينات من القرن الماضي، عندما كان يحضّر في "مدرسة موسكو المعمارية" إطروحته للدكتوراه في موضوع العمارة العربية الحديثة. ويكتب عن ذلك ".. نصحني، وقتها، مشرفي المعمار "ميخائيل بارش"، ان ازور معالم عمارة "آسيا الوسطى" (وهو الاسم الشائع لعمارة <بلاد ما وراء النهر> في ادبيات النشر الروسية والسوفيتية والغربية أيضا). وفي حينها، دُهشت لمدلول هذا المقترح، الصادر من أحد رموز عمارة "الكونستروكتفيزم" Constructivezm، تلك المقاربة المعمارية "العشرينية" الرائدة والطليعية، التي قُدر لها ان تغيّر مسار العمارة العالمية، وتبدل الكثير من قناعاتها، فاتحة الطريق على مصراعيه، لظهور الى ما يعرف بـ "العمارة الحديثة". لقد خُيل اليّ، في حينها، كيف يمكن ان يكون احد رجالات تلك المقاربة الحداثية مهتماً بشواهد التراث المعماري؛ وكيف يمكن إيجاد ربط بين مقترحه و"موضوعة" اطروحتي المكرسة لشواهد الحداثة في منتج العمارة العربية؟! لكني، وبعد زيارتي الأولى لمعالم تلك العمارة بذلك الإقليم النائي، ادركت مغزى وقيمة مقترح استاذي الجليل. وتعلمت بان مفهوم "الحداثة"، و"الحداثة المعمارية" على وجه اليقين لا ترتبط بفترة زمنية معينة، كما لا يمكن "تكبيلها" بإطر ومحدودات حالتها التاريخانية. انها مفهوم ابداعي، يتمرد في كنهه وتمظهراته، عن السائد والشائع والمألوف، حتى ولو بدا وكأنه يكرس قطيعة "أبستمولوجية" ومهنية مع ذلك الشائع والمألوف".
وسعياً لأدراك ثيمة الكتب بصورة موضوعية، فقد ارتأى المؤلف، ان تكون نصوص محتوياته موزعة على خمسة فصول، نراها ملائمة لبلوغ ذلك الادراك الموضوعي لما تم إنجازه من منتج معماري في بلاد ما وراء النهر. اذ ينشد الفصل الأول من الكتاب الى تأكيد أهمية حدث "الفتح الإسلامي" لذلك الإقليم، والذي ترجع نجاحاته المعمارية وتنوع "تابلوجية" مبانيه الى ذات القيم التي ارتبطت بهذا الحدث الفريد، الذي اجترحه العرب المسلمون.
تتناول نصوص الفصل الثاني قضية على درجة عالية من الأهمية في النعاطي مع عمارة ما وراء النهر، وهي القضية "الشائكة" علميا وتاريخيا، التي سبقت الفترة الزمنية للفتح الإسلامي للإقليم. اذ تم "الرفع" عاليا من شأن أهمية وقيمة المنتج المعماري في هذه الحقبة الزمنية من قبل بعض الدارسين. بل وذهب بعضهم الى تبني أطروحة مفادها ان كل ما انتج لاحقا، ولاسيما ابان الفترة الإسلامية، ما هو الا نوع من "استمرارية" و"انعكاس" لما كان موجودا وشائعا في تلك الفترة الزمنية, ويجادل هذا الفصل تلك الاطروحات، ويسعى الى الوصول من خلال دراسة متأنية تحرص ان تكون علمية، الى استنتاجات مقنعة وذات صدقية عن القيم الحقيقية لما انجز هناك، ومقدار تأثيرات ذلك المنجز على عمارة بلاد ما وراء النهر في الحقب اللاحقة.
ترتبط مواضيع الفصول الثلاث: الثالث والرابع والخامس، في موضوعة واحدة، هي في الحقيقة، موضوعة الكتاب الأساسية، وغايته الرئيسية. وهذه الموضوعة معنية في تبيان عمارة ما وراء النهر، كمنتج معماري مميز، قادر على إضفاء تنويع واضح الى خطاب العمارة الإسلامية. بيد ان ما يسم تلك الفصول هو حضور حالة التسلسل الزمني "الكرونولوجي" فيها. اذ يكرس نص كل فصل من الفصول الثلاث الى حقبة زمنية محددة، يمكن بها تعقب ورؤية الناتج المعماري وهو في اشتراطاته الزمنية والمكانية، وعلاقته مع الأبنية الأخرى، ومقدار تأثره بها، وتأثيراته عليها. أي ان الحدث المعماري المجترح، يبقى مديناً في ظهوره وبنوعية عمارته، الى خصوصية الفترة الزمنية التي "ولد" فيها. وناتج هذه الفترات الزمنية، محدد في الكتاب اعتبارا من الفتح الإسلامي الى فترة بداية القرن التاسع عشر، واحيانا الى بداية القرن العشرين. وتغطي جميع مباني الفصول، وكما هو واضح، من شواهد المباني المبنية او من مخططاتها المرفقة معها، ذلك الأسلوب المميز، الذي ارسي مفهوم عمارة بلاد ما وراء النهر في المشهد المعماري، كمنتج معماري خاص، يتمتع بفرادة تصميمية واضحة، ضمن تنويعات منجز العمارة الإسلامية.
تعود ملكية جميع الصور الملونة المنشورة في الكتاب الى المؤلف شخصياً. فقد جمعها عبر سنين عديدة والتقطتها اثناء زياراته الكثيرة الى الإقليم، ووثق بها حالتها الانية، كما اختار الزوايا التي يمكن ان تسهم في إعطاء تصورات كافية وواضحة عن قيمة العمارة المنجزة وتفاصيلها الغنية. وفي هذا الصدد يشير المؤلف بانه ".. جمعت آلاف من الصور، وسعيت وراء نشر حوالي 750 صورة في هذا الكتاب، تعكس طبيعة العمارة المصممة ونوعية الخامات المستعملة بالإضافة الى حضور اللون فيها، كجزء مهم من الحل التكويني لتك المباني. كنت في حالات عديدة وقبل التصوير اجلس امام الأثر او في باحته الوسطية او عند اطلاله، كي استشعر بما يحيطني من روائع تصميمية، مستحضرا توق المعمار المجتهد ومقدرا طموحاته في عمله الخلاق مع حرفييه الذين لا يقل جهدهم الفني عن الحلول التكوينية الفضائية التي قام بها زميلهم المعمار."
وفيما يخص المخططات المرفقة من مساقط ومقاطع وواجهات، فقد كان وجودها في الكتاب يمثل حالة ضرورية تتطلبها طبيعة مهنية الكتاب، المكرس لعمارة بلاد ما وراء النهر. اذ بدون تلك المخططات كان من الصعب إعطاء تصورات واضحة عن قيمة الأثر المدروس وتبيان حلوله التكوينية المبدعة، إضافة الى اظهار منظومات التناسب المتبعة في تحديد ابعاد عناصر المبنى وتفاصيله الكثيرة. وعن هذة الحالة يكتب المؤلف باننا ".. وجدنا ثمة ضرورة مهنية ملحة، تستدعي هذا الحضور الكثيف لتلك المخططات، وهي إمكانية ان يكون الكتاب ومحتواه مرجعا رصينا لدراسات مستقبلية تتعاطى مع موضوعة عمارة بلاد ما وراء النهر، ويقوم بها باحثون عرب يعملون على اضاءة جوانب تصميمية أخرى من هذه العمارة المبهرة، لم يتناولها هذا الكتاب. بمعنى اخر سعينا ان يكون الكتاب اسهامة علمية ومهنية، وان توفر معلومات زاخرة في موضوعها، يمكن بها الرفع من شأنها لتكون مرجعا علميا ذا صدقية عالية في حقل الاختصاص".
جدير بالذكر ان أكثرية المصادر التي اعتمدها المؤلف في قراءة عمارة بلاد ما وراء النهر والمثبتة هنا، في سردية هذا الكتاب، كانت لعلماء اوزبك او بحاثين روس (وسوفييت طبعا)، لهم باع طويل واهتمام اكاديمي وعلمي في تحليل وتعقب مسارات هذا الإرث الثر من العمارة. ونجد في واقعة نشر هذا الكتاب ومحتواه جهدا مميزا يظهر منتج العمارة الاسلامية في تميز مقاربتها المبدعة وفي اثراء تنويعات خطابها المتفرد.
العمارة الاسلامية في تميزها.. وتنوعها

نشر في: 14 يوليو, 2025: 12:02 ص









