ستار كاووش
ظهرَ الفن في العصور الغابرة بسبب حاجة الانسان الى التآلف مع تغيرات الطبيعة أو التصدي لقوتها وتأثيرها، وكان بمثابة حماية من الخوف والمخاطر. ويظهر ذلك من خلال الرسومات التي تركها لنا ذلك الانسان البعيد منذ حوالي أربعين ألف سنة، والتي تُشير الى الطرائد التى يحاول إصطيادها والحيوانات التي يريد تجنب أخطارها أو السيطرة عليها. وكانت النتيجة أعداداً هائلة من الرسومات الرشيقة المختزلة التي ظلت آلاف السنين في كهوف منسية، حتى تم إكتشافها هنا وهناك في مناطق مختلفة من العالم. لم يكتب أولئك الفنانون أسماءهم على تلك الرسومات طبعاً، وربما لم تكن لديهم أسماء أصلاً، حيث لا توجد دلائل أو معلومات كاملة حول هذا الموضوع الذي تفصلنا عنه سنوات طويلة جداً. بعد ذلك بآلاف السنين حين إنبثقتْ الحضارة العراقية القديمة ثم المصرية، لم يدون أحد الفنانين اسمه على المنحوتات والرسومات المختلفة، لأنها كانت جزءً من الحياة ومظاهرها، ونوعاً من التدوين والممارسات التي تخبرنا بطقوس وثقافة الناس فى تلك الفترات البعيدة. وفيما بعد، عند ظهور المخطوطات القديمة ومدرسة بغداد للتصوير، أيضاً لم يكتب الفنانون أسمائهم على تلك المخطوطات، لذا لم نعرف الكثير عنهم وعن طبيعة ومداخلات عملهم، حتى فَكَّرَ يحيى بن محمود الواسطي سنة ١٢٣٧ أن يكتبَ إسمه على مخطوطة مقامات الحريري التي رسمها بطريقة ساحرة أواخر العصر العباسي، ليتعرف الناس لأول مرة على إسم هذا الفنان وأسلوبه ورسوماته الفريدة التي تشبه الكنوز، والتي ظلت حيَّة وإستمر تأثيرها حتى يومنا هذا.
منذ تلك الانطلاقة التي قام بها الواسطي صار الفن فردياً لقرون عديدة، لكنه لم يبق كذلك حيث ظهرَ سنة ١٨٧٤مجموعة من الرسامين الانطباعيين الذين رسموا بتقنية متقاربة نوعاً ما، ليستمر بعدهم ظهور الجماعات والمدارس والتيارات الفنية، والتي جاء الكثير منها وخاصة في أوروبا كرَدِّ فعل مباشر على التقاليد الفنية القديمة، والأزمات وحتى الحروب التي مرّتْ بها الكثير من البلدان، حيث أرادَ الفنانون تمرير رسائلهم وإحتجاجاتهم الجمالية. وكانت هذه المدارس والتيارات الفنية بمثابة تنبوءات جديدة إن صحت التسمية، مثل التكعيبية التي ظهرت في فرنسا وجعلتنا ننظر الى الأشكال بطريقة جديدة، والتعبيرية التي بدأتْ في ألمانيا، وكانت عبارة عن ردة فعل لما حدث في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وإمتدت لفترة ما بين الحربين، حيث الخراب والدمار والتصدع الذي حدث في أرواح الناس والثقافة والاقتصاد وفي كل ملامح ألمانيا بشكل خاص.
والمفارقة هي أن ظهور الفن الحديث في بلداننا الشرقية، قد تزامن تقريباً مع توقف ظهور هذه المدارس الفنية في العالم. مع ذلك فالظروف التي مرَّ بها العراق والمنطقة بشكل عام، ربما كانت جديرة بظهور تيار جديد ونسق مختلف، وكان يمكن حتى الإبتعاد عن الفن الأوروبي وإيجاد مساراً خاصاً، لكن لم يتحقق ذلك ربما بسبب عدم توفر الحرية سواء في التعبير أو حتى فى إستخدام المواد المختلفة، ثم أن تشتت الكثير المبدعين العراقيين في بقاع متباعدة من العالم وبين ثقافات مختلفة حالَ أيضاً دون ذلك، كذلك فالفن الجديد يحتاج غالباً الى حاضنة جيدة وجديدة وتوقيتاً مناسباً ومؤسسات كبيرة تدعمه، كذلك يتطلب عروضاً مؤثرة وتنظيرات متسقة وأرشفة وكتباً، وطبعاً يحتاج الأمر الى جمهور يسير مع التغيرات بذات النسق. هكذا يجب أن تجتمع الكثير من المعطيات في بوتقة واحدة لتنتج طريقة تعبير مبتكرة، وربما تؤدي الى تيار جديد في الفن. وفوق كل هذا، هل لدينا شخصيات فنية ملهمة مثل تلك التي أمسكت بالفوانيس وسارت أمام الفنانين لتفتح الطريق أمامهم، كبيكاسو وكاندينسكي وبريتون؟ هل لدينا واسطي جديد؟
ومع أن الفن مازال -ظاهرياً- يمضي في مسارات فردية، لكن بسبب تطور وسائل التواصل ثم ظهور الذكاء الاصطناعي، عادَ الفن ليكون جماعياً، لكن أكثر من اللازم وضاعَ الحابل بالنابل، حيث أخذ الفن يتسع ويفتح أبوابه للجميع، وصارَ الناس يرسمون بطرق متشابهة، وليس هذا فقط، بل صار متاحاً لهم أن يمدوا أيديهم بسهولة الى تقنيات وأساليب الآخرين، لينسخونها ثم يدعون إنها من ابتكاراتهم الشخصية، حتى غرق الفن في تشابهات وتقاربات لا حد لها! ومع هذا (التطور) الرهيب إنزلقتْ خصوصية الفنان ولمساته الشخصية واسلوبه الفريد نحو هاوية التكنلوجيا التي بدت كأنها تعيده الى تلك الكهوف القديمة المليئة برسومات لا نعرف أسماء رساميها.










