نبيل عبدالفتاح
التطورات فائقة السرعة للمجتمعات الأكثر تطورًا فى عالمنا أدت إلى تغيرات كبرى متلاحقة، وفى مدى زمني محدود ومكثف جدًا فى الاكتشافات العلمية، والرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدى، وفى مفاهيم الزمن، والعمل، والأسرة، والفرد والقيم الاجتماعية، والصداقة، والحب، والحواس، والدوافع الفردية –ما كان يطلق عليه سابقا الغرائز-، وفى علاقة الفرد بالأسرة، والآخرين، وجماعات الرفاق، ومفهوم المجتمع، والطبقة الاجتماعية والأحزاب السياسية والحريات. التغير فى العلاقات الاجتماعية، نتاج التحولات داخل بنيات النظام الرأسمالي، وعلاقات الإنتاج، والانتقال من التقنيات التى سادت من الثورات الصناعية الأولى إلى الثالثة، إلى الرابعة التى ستشكل قطيعة مع مألوف حياة الفرد والمجتمعات والنظم الليبرالية السياسية فى العالم فائق التطور.
بدأت هذه التحولات العنيفة منذ ثورة الطلاب فى جامعتى كاليفورنيا بيركلى، والأهم فى السوربون 1968، التى شكلت صدمة جيلية من الشباب تجاه شيخوخة السياسية فى المجتمعات الغربية، وفى النظام الديمقراطي الليبرالي، وظهور بعض من أزماته، وخاصة فى علاقة الفرد بالمؤسسات السياسية، ومدى تعبيرها عن اتجاهاتها السياسة المعلنة ومرجعياتها، وتمثيلها لمصالح الأفراد، أو للشريحة الاجتماعية، أو الطبقة التى ينتمى إليها على نحو ما ظهر، خاصة فى عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وبداياته والتغير فى الايديولوجيات الكبرى، والانتقال إلى ايديولوجيا حقوق الإنسان ومسارات الوسط، ثم إلى نمط وسطى بين اليمين واليسار على نحو ما تم فى عهد ميتران فى فرنسا، ثم التحول إلى اليمين، وبروز أزمات الهجرة، وظواهر كراهية الأجانب –الاكزنوفوفيا- ومعها اليمين المتطرف، واستثارته بعضا من القومية والعرقية. التغيرات التى أعقبت ثورة الطلاب بجامعة السوربون، سارعت من تطور الرأسمالية الأوروبية والأمريكية، وأدت إلى أدب جديد، وفى السينما –الموجة الجديدة-، وأيضا فى الفكر الفلسفي، وخاصة مع ميشيل فوكو، ومقارباته الفلسفية المتعددة حول الإنسان، والمؤسسات العقابية، والسلطة، والفرد والجنسانية والمراقبة والعقاب.. إلخ. التغير الأخطر فى المجتمعات الغربية التى "تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات. كل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولا إلى تمثيل (Representation). وذلك وفق فيلسوف الأممية الرابعة جى ديبور، الذى ذهب إلى القول " يقدم الاستعراض نفسه فى آن واحد بوصفه المجتمع ذاته، وبوصفه جزءا من المجتمع، وبوصفه أداة توحيد، وبوصفه جزءا من المجتمع" (جى ديبور مجتمع الاستعراض، ت: أحمد حسان) الاستعراض والتمثيل، كسمات للمجتمع الرأسمالى المتطور، أدى إلى تراجع كل ما هو حقيقى إلى تمثيل، ومن ثم إلى نزعة استهلاكية عارمة، انفجرت مع النيوليبرالية الاقتصادية مع مارجريت تاتشر، ورونالد ريجان، وكارلوس ساليناس دى غوتارى – المكسيك- وأولف بالمه – السويد- وبيل كلينتون، وهيمنة الشركات الكونية الضخمة المتعددة الجنسيات والشبكات المعقدة، والنظر إلى المجتمعات بوصفها محض أسواق، وسلع، وهو ما أدى إلى تشيؤ الوجود الإنساني، وتسليع الإنسان الفرد، وهو ما أدى إلى مأزق الفرد الوجودى القلق والمنعزل، وتفاقم الأنوميا، والاغتراب الفردي.
لاشك أن نظرة الشركات الرأسمالية الكبرى فى مجال إنتاج السلع والخدمات، ركزت على الاستهلاك الفردي، وتجدده فائق السرعة، بحيث يدور فى دوامات عالم الاستهلاك المتجدد، ويحاصر بالسلع والخدمات وهو ما أثر على الوعى الاجتماعي، والسياسي الجمعي، وأدى الإنسان المتشيئ والسلعي إلى تحول حرية الاستهلاك إلى أم الحريات، وإلى هيمنة هذه الشركات الرأسمالية النيوليبرالية العملاقة على النخب السياسية الحاكمة فى الولايات المتحدة وكندا، وأوروبا الغربية، وباتت مؤثرة على توجهات الأحزاب السياسية، وعلى السياسات الحكومية، وبرامجها فى غالب المجالات. لا شك أن التطورات الرأسمالية النيوليبرالية أثرت فى تماسك المجتمعات، وفاقمت من وحدة الفرد، وهو ما سبق أن أشار إليه عالم الاجتماع البارز زيجمونت باومان فى كتابه المجتمع الفرداني – ت د. محمود عبدالله - وانتقال العلاقات الاجتماعية من النزعة الجمعية إلى التركيز المكثف على الفردانية والفرد ذاته، وبات يعيش فى حالة من القلق الوجودي، دونما مرجعيات، أو سرديات كبرى، بعد انهيار هذه السرديات، وتشظيات وتذرى أنماط الحياة وتفاصيلها فى مجتمعات عالم ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها. تفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية فى ظل الفردانية المفرطة، والفرد القلق، وأدواره المتعددة، أثر سلبا على تراجع أنظمة التنشئة الاجتماعية، ومؤسساتها –الأسرة والدولة -، وتمددت العزلة الفردية، وظواهر التهميش والاستلاب الاجتماعي. ساهمت الثورة الرقمية فى المزيد من العزلة عن الواقع الاجتماعى الموضوعي، ومن ثم حدة وقسوة حالة الوحدة القلقة مع تزايد البطالة، وأثر عالم الإناسة الروبوتية على أسواق العمل وحلول الروبوتات، والذكاء الاصطناعي التوليدي وحلولهما المتدرج وفائق السرعة محل الفرد القلق الوحيد فى عديد من مجالات العمل. هذا القلق السوسيو-نفسي جعل الفرد لا يثق فى المؤسسات السياسية الليبرالية، وأيضا فى فرض عليه التزام يحاصره بالمسئولية الفردية الثقيلة والضاغطة والكثيفة، وأن النجاح والفشل فى الحياة والعمل هو نتاج لمسئوليته الفردية فى هذا الإطار المفكك لأنسجة الروابط الاجتماعية والمهشمة أيضا، وأزمات الثقة بين الفرد القلق المهووس بالاستهلاك والوحدة، ومسئوليته المفرطة عن حياته، وثرواته –ذهب أمبرتو إيكو إلى أنه "فى ظل أزمة مفهوم المجتمع برزت فردانية لا يكبح لها جماح، حيث لا أحد رفيق الدرب لأحد، وإنما خصم ينبغى الحذر منه. زعزعت هذه "الذاتية" أسس الحداثة، وجعلتها هشة، ونجم عن ذلك وضع تتقدم فيه أى نقطة مرجعية، ويذوب فيه كل شيء بما يشبه السيولة. يفتقد اليقين القانوني (القضاء يوصف بأنه عدو)، فلا يتبقى من حلول أمام الفرد الفاقد للمرجعية إلا الظهور بأى ثمن، الظهور باعتباره قيمة. فاقم من نظرة إيكو لكتاب زيجمونت باومان، ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، فى أثرها على الفرد القلق، ووضعية السيولة الاجتماعية، وأزمات المجتمع الأكثر تطورًا وسيولة، على نحو أدى إلى هيمنة الرغبات العارمة فى الظهور سعيا وراء اعتراف الآخرين بوجوده، وهو ما يفاقم من أزمة الوجود الفردي فى الحياة.
· عن صحيفة الاهرام











جميع التعليقات 1
محمد عادل زكي
منذ 5 شهور
مقال رائع كالعادة.تحياتي وتقديري دومًا