TOP

جريدة المدى > عام > جيانوي شون في كتاب " الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك وصناعة الواقع"

جيانوي شون في كتاب " الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك وصناعة الواقع"

نشر في: 21 يوليو, 2025: 12:04 ص

مي عبدالكريم محمود
(مصطلح Hypnocratie مركب من Hypno اليونانية وتعني النوم أو التنويم، ومن cratie أي السلطة والحكم.)
يتقصى كتاب "الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك وصناعة الواقع" صعود شكل من أشكال السلطة الناعمة والخادعة، لا تحكم بالأوامر بل تمارس سطوتها عبر الإشباع والتكرار، وتستبدل الديمقراطية الليبرالية بنموذج تكنوقراطي وشركاتي، تتقاسم سلطته أو السيطرة عليه مجموعات مهنية أو اقتصادية أو تكنولوجية متعددة الجنسيات مثل جوجل وأمازون وتيسلا، ويحدث أحيانًا أن تشارك بشكل مباشر في تطوير القوانين الاقتصادية أو الاجتماعية، متجاوزةً المؤسسات الديمقراطية التقليدية.
يركز الكتاب على شخصيتين محوريتين بوصفهما مثالين لهذا النمط الجديد من الفاعلين السياسيين، وتسعيان إلى إضعاف المؤسسات الديمقراطية عبر تحالفات مع حركات اليمين المتطرف أو المناهضة للدولة، من أجل إقامة نظام عالمي تديره كيانات لا تخضع لرقابة قانونية واضحة، ولها أهدافها الخاصة التي تكون ربحية في الغالب.
في هذا السياق تحضر " سبايس إكس (SpaceX) التي أسسها ماسك، كمثال واضح: شركة خاصة تنفذ اليوم برامج فضائية كانت يوما حكرا على وكالات حكومية ك "ناسا ".
كما يسلط الكتاب الضوء على كيفية استغلال هذه الشخصيات الفاعلة للانقسامات الهوياتية والتقلبات الاقتصادية لزرع فوضى "خلاقة" تمهد لنظام تذوب فيه الدولة القومية لصالح كيانات غير إقليمية، لا ترتبط بدولة أو إقليم معين، تدار بعقود خاصة وبيانات رقمية وتمول غالبا من القطاع الخاص. وهذا يعني أنها تمارس نفوذها أو أنشطتها خارج الحدود الجغرافية أو القانونية التقليدية. وخير مثال على ذلك هو ميتا (فيسبوك سابقًا) التي، رغم كونها شركة أمريكية، إلا أن تأثيرها (قواعد المحتوى، البيانات، الإعلان) ونفوذها السياسي والثقافي العالمي لا يخضع لسيطرة الدولة في الغالب.
يقدم الكتاب تحليلًا نقديًا حول الكيفية التي تعيد فيها شخصيات مثل ترامب وماسك صياغة هياكل السلطة في عصر الرأسمالية الرقمية، وكيف تستبدل الآليات الديمقراطية بحكم تكنوقراطي - شركاتي، فالسلطة الجديدة لا تتأسس بالجيوش أو بالحدود، بل بالخوارزميات التي تُنوّم البشرَ بدلًا من أن تقمعهم.
في ظل النظام الهيبنوقراطي، لا يُمنعك أحد من الكلام لأن كل ما تقوله يُمتص داخل ضجيج شامل حيث يغدو التمييز بين الحقيقة والباطل ضبابيًا. أنت حر ولكنك مشوش، تائه وفاقد للبوصلة. الإشباع المفرط هو نهج هذه السلطة: شريط لا ينقطع من الأخبار، إشعارات متلاحقة، صور متكررة، تناقضات استعراضية. المنصات الرقمية تغرقنا بمحتويات فيروسية سريعة الانتشار كالعدوى، المواد الرقمية مثل الفيديوهات والتغريدات والصور تنتقل بسرعة هائلة بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إما بسبب جاذبيتها العاطفية أو طرافتها أو محتواها الصادم، ولا تخضع لمراجعة نقدية. إن هذا التدفق المستمر والمنوّم يهدهد الوعي ويضعف القدرة على التفكير. يمكن للمرء أن يقضي ساعات يتصفح تويتر (X) أو تيك توك، معتقدًا أنه يطّلع على ما يجري، لكن فعليًا تكون ملكة التفكير لديه معطلة ومشتتة، ويعاني ما يشبه الخدر الذهني.
يمثل الكتاب تكملة لمسار نقدي بدأ مع "غي ديبور" (في "مجتمع المشهد"، 1967) ثم "فوكو" (في تحليله للسلطة البيوسياسية، 1976)، ولكن الفرق هنا هو أننا أمام سلطة تهيمن على وعي الفرد وتحوله إلى مستهلك سلبي للمحتوى، وتخلق وهم المشاركة السياسية عبر تفاعلات فارغة. إنها لا تقوم على الإكراه بل على الهيمنة على الإدراك وحالات الوعي عبر تشبع الشاشات وتكرار المعلومات وتدويرها وتحويل الواقع إلى سيناريوهات متعددة لها القدرة على التنويم وخلق غيبوبة مستمرة، نوع من اليقظة المنومة حيث تصبح القابلية على النقد متلاشية. وهكذا ندخل في ديمقراطية مفرغة من وعيها، حيث يجري تحفيز الوعي دون السماح له بأن يتشكل أبدًا. يستحضر ترامب اعتداءات وهمية ليتقمص دور المنقذ لأمريكا، بينما يتنبأ ماسك بكوارث نهاية العالم بسبب الذكاء الاصطناعي، ليُقدّم نفسه كحارسٍ للبشرية. هذه هي التقنية التنويمية القائمة على اختراع المشكلات الوهمية ثم حلها.
أثار ظهور الكتاب الحيرة لدى وسائل الإعلام لشهور عديدة. فمؤلفه جيانوي شون هو فيلسوف مجهول من هونغ كونغ، ومكان صدور الكتاب غير معلوم. مع ذلك أصبح محل اهتمام كبير ووصفه البعض بالرؤيوي، وحُكم على تحليله بكونه الأكثر واقعية لعصرنا.
لم يستطع أحد العثور على جيانوي شون رغم مرور أسابيع حتى جاء يوم نشر الكتاب وظهوره في المكتبات في بداية نيسان الماضي. وكانت المفاجأة أن جيانوي شون لا وجود له، وأن الكتاب هو من تأليف الذكاء الاصطناعي. ولكن هذا لا يعني انعدام العنصر البشري وراءه. إنه الفيلسوف الإيطالي أندريا كولاميديتشي، الذي صرّح أن التجربة كانت "أدبية ووجودية"، تهدف إلى اختبار مدى تأثير هوية مولدة على الخطاب الفكري العام، وتبحث في مدى واقعية أن يُنتج الذكاء الاصطناعي مفاهيم نقدية قادرة على التأثير.
أندريا كولاميديتشي هو محرر وفيلسوف متخصص بقضايا الذكاء الاصطناعي. قام بوضع هذا الكتاب من خلال تفاعله مع منصتين للذكاء الاصطناعي هما شات جي بي تي وكلود، بعد أن قام بتغذيتهما بأعماله السابقة ومراجعه الفكرية. بدأ العمل على مشروعه قبل عام من انتخاب دونالد ترامب. ويتصف الكثير مما كتبه بالرؤيوية، ويركز على الطريقة التي تستخدم بها القوة الاستبدادية الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لتخدير الضمائر. لا داعي للرقابة أو المنع، يكفي إغراق المجتمع بالمعلومات والتفسيرات بمنطق مربك. ستزودنا الخوارزميات وهندسة حياتنا الافتراضية باستمرار بالأحداث والمعلومات التي سيتعين علينا أن نتفاعل معها باستمرار. التحية النازية التي قام بها إيلون ماسك، والتي من الواضح أنها كانت تحية نازية، كان هناك من اقتنع بأنه رأى تحية نازية، وآخر من رأى فيها إيماءة ترحيب عفوية، ثم توالت التفسيرات المربكة التي كان غرضها تغييب الوعي لدى الأشخاص الذين فقدوا الإيمان بوجود الواقع، ولم يبق لديهم سوى الانصياع إلى صاحب الكاريزما الأقوى.
ثم يبقى السؤال: من هو مؤلف الكتاب الحقيقي؟ الذكاء الاصطناعي أم الإنسان؟ وهل سيحل الذكاء الاصطناعي محل فلاسفتنا واستحداث المفاهيم التي تمس حاجة الإنسان؟ في تسعينيات القرن الماضي، أوضح الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور أن تفاعل الإنسان مع الذكاء الاصطناعي يخلق في الواقع كيانًا ثالثًا. أما بالنسبة إلى الفيلسوف الإيطالي كولاميديتشي، فإن مؤلف الكتب التي توضع بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي هو ليس نحن ولا الذكاء الاصطناعي، وإنما هو وليد العلاقة المثمرة بين ذكاءين يكمل أحدهما الآخر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram