علاء المفرجي
يعد فؤاد التكرلي (1927م - 2008م) احد أبرز الروائيين العراقيين، واحد الذين أسسوا للفن الروائي العراقي ألف روايات قليلة، إلا أن مساحة تأثيرها كانت أكبر لكونها نموذج للروايات الكلاسيكية الحديثة ببنائها. وهو روائي عراقي ألّف القصص بأسلوب إبداعي متميز, وأسهم في تطور الثقافة العربية وأثرى المكتبة العربية بالكثير من قصصه الأدبية.
ولد التكرلي في بغداد عام 1927م، ودرس في مدارسها، وتخرج من كلية الحقوق عام 1949م، ثم عمل ككاتب تحقيق وبعدها محاميا، ثم قاضيا، وتولى عدة مناصب في الدولة ومنها في القضاء العراقي حيث تم تعيينه قاضيا في محكمة بداءة بغداد عام 1964، وبعدها سافر إلى فرنسا ثم عاد ليُعيّن خبيرا قانونيا في وزارة العدل العراقية. وعاش في تونس لسنوات بعد تقاعده، وعمل في سفارة العراق بعد حرب الخليج عام 1991م
النشأة والسيرة
ينتمي التكرلي إلى عائلة ذات حظوة دينية ومكانة اجتماعيّة متميزة، ترجع بنسبها إلى عبد القادر الجيلاني، وإذا كانت هذه العائلة، بتفرّعاتها المختلفة قد تمتّعت بمباهج السلطة في بداية الحكم الملكي في العراق، فإنّها سرعان ما تخلّت عن الدور الذي أنيط بها موقتاً لجيل جديد من السياسيّين نشأوا تحت الراية العثمانية وتعلّموا صرامة عسكرها، لكنّهم تعلموا أيضاً من الاحتلال البريطاني بعض عناصر الحداثة الأوروبية. وقد أدى ذلك إلى فترة انفراج نسبي اجتماعيّاً أسهمت في إظهار ذلك الجيل الذي لا يتكرّر من المبدعين أو ساعدته على إنضاج تجاربه.
نشر التكرلي أولى قصصه القصيرة في عام 1951م في مجلة الأديب اللبنانية، ولم ينقطع عن نشر قصصه في الصحف والمجلات العراقية والعربية، كما صدرت له في تونس عام 1991م مجموعة قصصية بعنوان (موعد النار). وفي عام 1995م صدرت له رواية (خاتم الرمل). وكتب روايته الأخيرة (اللاسؤال واللاجواب) عام 2007م. كانت له أيضا مؤلفات أخرى مثل خزين اللامرئيات والرجع البعيد التي أسست لخطاب روائي متميز وأرخت لحقبة تاريخية مهمة في الحياة العراقية وكانت مفعمة بالروح والأعراف الشعبية ونكهة كل وجبة وبهاء كل طقس اجتماعي لأهل بغداد العجيبين.
انتقل التكرلي إلى باريس عام 1964 لمتابعة دراساته العليا في القانون. عاد لاحقًا إلى فرنسا لفترة وجيزة خلال الثمانينيات. تقاعد من القانون عام 1983 لتكريس المزيد من الوقت لكتابة الروايات. عمل في وزارة العدل العراقية لمدة 35 عامًا، إلى أن أصبح قاضيًا في عام 1956 قبل أن يُصبح لاحقًا رئيسًا لمحكمة استئناف مدينة بغداد. أثناء توليه هذا المنصب، اكتسب سمعة مرموقة فيما يتعلق بالعدالة. ثم انتقل التكرلي إلى تونس عام 1990 بعد وفاة زوجته. وفي وقت لاحق تزوج من الروائية التونسية رشيدة تركي.
وأهم المؤلفـــات: الوجه الآخر، الرجع البعيد، موعد النار، الكف، خاتم الرمل، الأوجاع والمسرات، الصخرة، بصقة في وجه الحياة.
رائد الكلاسيكية الحديثة
تتميز روايات فؤاد التكرلي في أسلوبها الفني الجميل، ولغتها الجاذبة، و"الثيمة" التي تشكل المحور الأهم لجذب المتلقي والإمساك به، والتجديد والحداثة في السرد، بحسب الروائي والقاص فلاح العيساوي.
ويوضح في الحديث عنه: أن الطابع المشترك بين روايات فؤاد التكرلي هو "الإنسان" وهمومه ونوازعه النفسية، وفقره المادي والمعنوي، ومشاكله مع المجتمع، ومشاكله بسبب أوضاع المجتمع، والحرمان العاطفي، وحرمانه من أدنى حقوقه المشروعة بسبب سياسات الحكام.
ويضيف الروائي والقاص أن التكرلي في روايته "الرجع البعيد"، خرج من هيمنة الراوي العليم إلى الراوي من خلال ضمير المتكلم. ويعتبر العيساوي جميع روايات التكرلي مهمة وبارزة، حيث إنها تؤرخ للمجتمع العراقي، وما عاناه الفرد والمجتمع، فالروائي هو مصلح اجتماعي يتناول قضايا المجتمع بحرفية أدبية ويقوم بتشخيص الحالات المرضية وإبرازها أمام المتلقي حتى تكون عبرة ودرسا إنسانيا، وتشخيص المرض هو بداية مهمة تسبق مرحلة العلاج.
وعن أبرز نتاجات التكرلي الأدبية يذكر: "بصقة في وجه الحياة"، التي كتبها سنة 1948، وتأخر طبعها حتى عام 1980 بسبب موضوعها الجريء. ويعدد روايات أخرى، مثل: "الرجع البعيد" (1980)، و"خاتم الرمل" (1995)، و"المسرات والأوجاع" (1998)، و"اللا سؤال واللا جواب" (2007).
حاول التكرلي تجاوز السرد التقليدي والثيمات الكلاسيكية، التي شاعت في المرحلة الواقعية من الرواية العراقية، ونجح في نقل الرواية العراقية نقلة نوعية، كما يقول حميد.
ويعزو أستاذ الأدب والسرد العربي الحديث ذلك إلى موهبة الراحل واطلاعه على الأدب العالمي، ولا سيما الفرنسي، ومن خلال رؤيته الفلسفية والفكرية وتجاوزه لمفاهيم الأدب التربوي أو الرسالة الاجتماعية للأدب، وخوضه في القضايا النفسية والفكرية للشخصية المأزومة التي ليست مع المجتمع أو حتى ضده، لافتا إلى أن كل هذه القضايا غيرت من وجه السرد العراقي الحديث.
وفي الإطار ذاته، يقول القاص والروائي العيساوي إن التكرلي اسم عربي وعراقي كبير في عالم القصة والرواية، وقد عدّه النقاد من رواد الأدب العراقي الحديث في الرواية والقصة، حيث كان مدرسة متجددة في كتابة الرواية الواقعية الحديثة التي سلطت الضوء على الحياة الاجتماعية العراقية.
الجوائز والتكريمات التي نالها
• تكاد تكون مؤسسة المدى، هي المؤسسة العراقية الوحيدة التي كرمت الروائي فؤاد التكرلي، عندما أقامت له احتفالية كبيرة في إطار أسبوع المدى الثقافي الكبير الذي أقيم في أربيل عام 2006 وحضره أكثر من 700 مشارك من العراق والعالم العربي.. حيث قلده رئيس المؤسسة وساما تكريما لمسيرته الأدبية الزاخرة، وطبع جميع مؤلفاته الروائية والقصصية في دار المدى.
• منحت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة التكرلي جائزة العويس للروايات العربية وآدابها عام 2000. وجاء في حيثيات منح الجائزة: تمنح جائزة القصة والرواية والمسرحية للروائي فؤاد سعيد التكرلي تقديراً لعطائه كاتباً (شديد العناية بأدوات فنه)، حريصاً على نصاعة موقفه الفني والفكري والثقافي على حد سواء، وترى اللجنة أنه من أبرز كتاب الرواية العربية، ومن أكثرهم تميزاً فيها، لقد وطد مكانته الإبداعية في هذا الفن في العراق منذ مجموعته القصصية الأولى "العيون الخضر" التي صدرت سنة 1950. ولفت الأنظار إليه في سائر أقطار الوطن العربي، ثم جاءت روايته "الرجع البعيد" 1980 إضافة كبيرة إلى الرواية العربية مما أسهم في ترسيخ مكانته الأدبية بين القراء والنقاد على السواء، وتواصلت مسيرته الخصبة عقب ذلك حتى بلغت ذروتها في روايته الأخيرة "الأوجاع والمسرات" 1998، التي أكدت استمرار عطائه وتواصله حتى اليوم وهي رواية متميزة حقاً ولعلها من الروايات العربية القليلة التي ترقى إلى مستوى الروايات الإنسانية الكبرى.
• وظهر اسمه مدرجًا ضمن الفائزين في موقع جائزة "كتارا" للرواية العربية، رغم أن مصدر الموقع يوضح أن باب الترشح مغلق للدورة الحادية عشرة دون تحديد سنة فوزه. وعبر المؤرّخون والمثقفون عن تقديرهم له بعبارات مثل "عدد من الجوائز الأدبية العربية". واعتُبر ضمن "أفضل فرسان الساحة الأدبية العراقية" وركيزة من ركائز الحداثة السردية، وهو ما يعد تكريمًا معنويًا هامًا.
"الرجع البعيد" رواية الخلود المرتجى
تعد روايته "الرجع البعيد" أهم أعمال التكرلي، فهي الرواية الأكثر طباعة والأكثر قراءة، فضلا عن كونها الرواية التي حازت على أكبر عدد من القراءات النقدية ساء العراقية أو العربية.
ورواية "الرجع البعيد"، رواية صعبة المراس، تخضع لشيء من التفسير والتأويل النقدي، لذا احتملت تفسيرات عدة، وصمت الكاتب عن إبداء الرأي حولها، لأنها تتناول مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ العراق المعاصر، خصوصاً أنها تتحدث عن ثورة 14 يوليو 1958م وما بعدها من أحداث وصراعات بين الشيوعيين والقوميين، وقد تضمنت إدانة لجميع الأطراف المتصارعة، بصورة غير مباشرة، وفيها تخلى الكاتب عن سلطة الراوي كليّ العلم، وسمح لبعض الشخصيات بأن تسرد الأحداث على لسانها، وعبر ضمير المتكلم "أنا"، وهذا يعد تطوراً نوعياً في كتابة الرواية المتعددة الأصوات، فضلاً عمّا تضمنته من إحالات رمزية غير مغلقة عن المسكوت عنه اجتماعياً، وبالذات "زنا المحارم"، وبهذا كسر التكرلي الطوق المهيمن الذي يمنع الحديث عن مثل هذه الأمور التي سبق ذكرها، مثل الشذوذ والانحراف. أما روايته "المسرات والأوجاع"، فتناولت هيمنة الموقف السياسي للأشخاص على الكفاءة والقدرات الإدارية، فقد أصبح موظف الاستعلامات شبه الأمي مديراً عاماً!
وقد كتب الأديب محمود سعيد عن رواية الرجع البعيد:
نشر التكرلي رواية الرجع البعيد في وقت يكاد أن يكون خالياً من المنافسة، فأصبح أهم روائي في العراق، وكان من الممكن أن تثير (الرجع البعيد) غضب السلطات لأنها تتكلم عن حزبي مستهتر (عدنان) ينحدر في تصرفاته إلى حد انتهاك المحارم، لكن هدوء التكرلي، وبعده عن التحزب المناهض للسلطة، مكنته من تجاوز المشكلة، فبقي آمناً مطمئناً حتى نهاية حكم البعث.
صور التكرلي في الرجع البعيد وبفن أخاذ البيئة البغدادية، بمشكلاتها، وتلاطمها، وخيرها، وشرها، وأحداثها، تصويراً ممتازاً، ولعل عراقة أسرته، وثقافته، وسعة اطلاعه، وبعده عن الانحياز الحزبي الذي جرف الكثير من المبدعين، مكّنه من النظر إلى المجتمع العراقي بشفافية، واعتدال ليصور، مخلوقاته بصدق، في نظرتها إلى الحياة، كما يجب أن تعاش (كما هي) وبحيادية، مما اضطر بعض النقاد إلى التهجم على سلبية بعض تلك المخلوقات والنيل منها، والحط من عدم فعالية البعض الآخر، أي بما يوسم بالهامشية في الأدب. وهذا في رأيي نوع من التعسف الشديد، فعلى الإنسان أن يعيش الحياة كما هي، بالطريقة التي يراها تسعده لا كما يريدها الفلاسفة، الذين أرهقوا أنفسهم وأرهقوا التاريخ أيضاً، أي أن يعيش حياته.
بعض ما قيل عن فؤاد التكرلي
القاص محمد خضير:
أهديت واحدة من حوارياتي الى روح فؤاد التكرلي معترفا بفضله في ابتداع نوع سردي يتوسط الدراما ذات الفصل الواحد والقصة القصيرة، جمع أفضل ما كتبه منه في كتابين (الصخرة) 1986 و(حديث الأشجار) 2007. أستعيد شغفي بهذا الفن الحواري لأثبت حقا للتكرلي في تأليفه لم ينازعه عليه كاتب قبله، في ذكرى وفاته في الحادي عشر من شباط 2008.
لطالما لفتت انتباهي وفرة الحوار وثرائه اللهجوي في قصص التكرلي ورواياته. وكان إعجابي يضطرد مع عجبي من قلة اهتمام قصاصينا بهذا العنصر الأساسي ودلالته على موقف التكرلي من شخصياته التي أراد الانتماء إلى عالمها والخوض في مشكلاته. كان مستمعا مخلصا لتلك النبرات العسيرة على الترجمة الفصيحة فأعطاها من موقعه وزاويته المتعالية قدرا من التعاطف، وتبنى صدقها وصراحتها. ثم لما وجد تعاطفه قليلا منحها الدور الأول في "حوارياته" من موقف المراقب لا المتدخل الفظ في شؤونها الخاصة. كان الفن الحواري الخالص من التحليل حلا وسطا يبرئ ذمته من تيه السرد الوصفي في وقت كان الواقع يحتدم بأعظم الشرور ويطارد السارد بإلزاماته. فكانت "الحواريات" تقنية انتزعها التكرلي من أصول الإجراءات القانونية، يرافع بها ضد سأم الواقع وضغط شخصياته.
يمتثل التكرلي إلى الأصول الدرامية في حوارياته، لكنه ينعطف بها أحيانا إلى مشاهد "الفودفيل" الفكاهية، ويخضعها أحيانا أخرى إلى طوية سوداوية، وفي الحالات كلها كان يقصر حوارها على عدد محدود من الشخصيات وعلى شخصين أحيانا. وبهذا تحصر الحواريات المنظور السردي في أضيق الزوايا لكي يتعالى الصوت المسموع ويتردد صداه طويلا وتقوى نبراته، هذه الطليقة من طوارئ زمنها والهاربة من ألغازه إلى شجونها الذاتية، أو تلك المخنوقة تحت ثقله المباشر حتى الصمت والموت.
نذهب في الحالة الأولى إلى حوارية (حديث الأشجار) التي تكشف عن تعاطف ثنائي، متبادل بين شخصيتين: شيخ وسيدة في الخمسين من عمرها، يتقابلان صدفة ليلا في حديقة كثيفة الأشجار، ينزوي الأول متأملا في زاوية منها، وتتحدث الثانية إلى أشجارها، في طقسين محتمين على كل منهما. ينتظر الشيخ نوم أطفال ابنه لكي يعود إلى البيت في الساعة العاشرة، بينما لا عودة معلومة للسيدة العجوز حتى ينصرف آخر "زبائن" ابنتيها اللتين "تدبران المعيشة". وفي الحالة الثانية تسحبنا حوارية (الأشباح) إلى خناقها وعرضها المتوتر لحادثة اختطاف يحاور فيها الخاطف رجلا مربوطا إلى كرسي، ينتظر حسم وضعه بالمساومة على مصيره.
تطغى ثيمة انتظار "غائب" أو "حل مفاجئ" على حواريتي "انتظرني عند شجرة الدردار" و"الصخرة". فالشاب الذي ينتظر حبيبته في محطة باص مدة ثلاثين عاما، تأتي امرأة تشبهها لتبلغه أنها أخلفت وعدها بسبب خطأ في عنوان مكان الانتظار، بل تحسبه من الفانين الذين تجاوزهم الزمن. وعكس هذا النوع من الفكاهة العاطفية، تقيم حوارية (الصخرة) جوا من الفانتازيا السوداء، يسوده الإبهام والغموض، مما كان التكرلي يتدبره لأغلب قصصه القصيرة المغلفة بالهمس المحرم والمونولوج المنفرد.
يقصي التكرلي شخصيات نصوصه الحوارية عن الجو الواقعي، ويختار لهم مناظر انفرادية مؤثثة بديكور تجريدي متقشف، لتغريب وجودهم وتحفيز استجابة المتلقي لظرف كابوسي فوق واقعي. نتساءل عن الدافع التغريبي وراء اجتماع ست شخصيات/ عينات متجاورة السكن، حشرها التكرلي في غرفة واسعة لامعة الأرض والجدران لكي تتداول الرأي حول "صخرة ذات لون رمادي _ أزرق ترقد بشكل وحشي من الأرض حتى السقف". الشخصيات مختارة لتمثيل الموقف الدرامي بإحساس يشعر القارئ/ المراقب بتصاعده وارتطامه بالصخرة الجاثمة تحت أضواء مسلطة عليها.
الجيران المجتمعون حول الصخرة (المهندس، الفنان، المخطط، العالم، الذي يفهم كل شيء) استدعتهم الشخصية السادسة المعرفة باسم "المنتظر رحمة الله" لمناقشة الظهور المفاجئ للصخرة في غرفة الاستقبال ببيته فتسلبه الحياة الهانئة وتضايق عائلته. يتراصف الجيران الخمسة على مسطبة خشبية يقابلهم "منتظر" على كرسي مريح، يتلاقفون بكلامهم الفكرة الرئيسة للحوارية: "انسداد الأفق وضيق مجال الرؤية". لكن الحوار لا يزيد الأفق إلا ضيقا، والتفاهم بين الجيران إلا انقطاعا وهروبا من المعضلة، فيصرخ فيهم صاحب البيت مبصرا إياهم بماهية الصخرة: "إنها كل شيء أسود في الوجود، كل ما هو شرير؛ لا إنساني، ضد الحياة. إنها المرض والقبح والإجرام والخيانة. إنها كل ما لا نريده وما هو موجود فينا".
لا يحدث شيء في "الملهاة" ذات المنظر الواحد. فالخطير يبقى على خطورته. وما ننتظره في ملاهٍ أخرى قد يطول انتظاره إلى ما لا نهاية. لا جدوى من حوار تراجيدي ينقلب إلى كوميديا فاضحة. الصخور التي تزحم طمأنينتنا تكبر كلما كسرنا قطعة منها. السيولة اللسانية لا تنفع إلا في تقريع ذواتنا والكر على واقع أخرس لا يلبي نداءاتنا. أليست هذه الثيمة "السيزيفية" إشكالية يدورها التكرلي من نوع أدبي إلى آخر عسى أن يجد خلاصا من ورطته الأخلاقية والقانونية؟
الناقد قيس كاظم الجنابي:
يشكّل التكرلي مع القاص عبدالملك نوري ثنائياً له ميزاته الفنية والموضوعية في طبيعة بناء القصة، وفي حركة الشخصيات، وفي توظيف المضامين، فقد كانا خير ممثلين لجيل الخمسينيات في الحداثة، وفي تمثيلهما للواقعية آنذاك، التي ساهمت في التأثير على الأجيال التالية بالذات في ما كتبه كل من نزار عباس، ومحمد خضير من الأجيال التالية.
تعد قصته الطويلة "الوجه الآخر"، التي سميت المجموعة باسمها، من أفضل القصص التي أثارت مشكلة الإنسان وعذابه، عبر بطلها "محمد جعفر"، الذي يعيش حالة من العوز والضيق في حياته الزوجية حين تصاب زوجته بالعمى بعد ولادة عسيرة يذهب ضحيتها الوليد، مما يغيّر نظرة البطل إلى حياته وإلى زوجته، ويُحدث تحوّلاً في تصرّفاته وفي نزواته وتطلعاته، فيعمد إلى إعادة زوجته إلى بيت أهلها ويتطلع إلى جسد "سليمة"، زوجة الرجل الغني، إنه يعاني أزمة جنسية ومشاعر من الكبت والانسحاق في دواخله، على الرغم من كونه متزوجاً، أي إنه لم يستطع التوغل داخل واقعه، فظل عاجزاً عن الإتيان بعمل مهم وفاعل وضروري، وهذه هي سمة أبطال فؤاد التكرلي، فهم عاجزون، يعانون فشلهم، فقد كان محمد جعفر خائفاً. وهو يعرض هذا الإحساس عبر السرد المعتمد على أسلوبين: أحدهما ضمير المتكلم والآخر ضمير الغائب، وعبر الوصف المركز الذي يوغل نحو أعماق النفس البشرية، وعبر التداعي أو من خلال المونولوج الداخلي، إذ يجد في ذاته محاولة لإعادة ترتيب أحاسيس الكاتب بشكل ينسجم مع المرحلة التي عاشها، أو مع مفاهيمه للحياة، فأبطاله يكاد أن يتشابهوا في معاناتهم، وهذا ما يعكس تأثير شخصية المؤلف عليهم، فهم "أناس معذبون في الحياة، لا يلقون إلا ما يؤذي وما يعكس الرغبات والآراء، ولا تلتفت إليهم الحياة بعين، ولا تكاد تشعر بوجودهم، ولا تشعر بأن لهم حقاً من العناية والرعاية، إنهم ضائعون، وإنهم لشاعرون بهذا الضياع".
الروائية ميسلون هادي:
المرة الأولى التي ذهبنا فيها إلى بيت فؤاد التكرلي كانت في الثمانينات، فقد زرناه أنا ونجم في مسكنه الكائن خلف محطة المنصور، وأول دخولي للبيت انتبهت إلى يده اليسرى، أبحث فيها عن قصة عرفت بها من بعض الزملاء.. كانت زوجته قد توفيت قبل فترة، وسمعتُ أنه لا يزال يرتدي خاتم زواجها مع خاتمه، وعندما ألقيت نظري إلى أصابع يده، وجدت فعلاً على بنصره الأيسر قصة حب كبيرة مكتوبة بحلقتين متلاصقتين من الذهب.
أجلسنا في غرفة الضيوف الأنيقة، وتشعبت الأحاديث بينه وبيننا، وكان موضوعها تأثير وليم فولكنر على بعض الأعمال الروائية العراقية التي تناولها نجم في دراسته للدكتوراه.. في نهاية اللقاء بلغ به التهذيب حداً أن أبدى رأيه في قصة لي منشورة ضمن ملف أدب الشباب في مجلة الطليعة الأدبية حينذاك، ثم بعد أن قال رأيه سألني فجأة:
- لماذا تعتقدين أن هذه القصة جيدة؟، قلت له: لا أدري. فقال بضحكته المهذبة التي تجمع بين التواضع والثقة العالية بالنفس: ما يصير تقولين ما أدري؟
ولكني كنت فعلاً لا أدري، ولم أكن أتوقع أن يبدي رأياً في عمل لي، كما لم أجرؤ لاحقاُ على أن أطلب منه أن يقرأ لي قصة منشورة أو غيرة منشورة، أو يبدي رأياً فيها، فهذه كانت بالنسبة لي جرأة في غير محلها، وفكرة لا تخطر على بالي أساساً.
الآن، وبسبب الفيس بوك، يشكو الكثير من الكتاب من ميانة البريد الخاص، ولا أقصد بذلك رسائل المحبة والتفقد والامتنان، ولا رسائل الطلاب والدارسين، وإنما رسائل الذين لا تربطهم بالكاتب أية زمالة أو صداقة، مع ذلك يقفزون على هذا الحاجز، ويطلبون من الكاتب قراءة نصوص لهم غير منشورة وابداء الرأي فيها.. في العادة إذا كان النص قصيرا ومكتوباً داخل الرسالة نفسها، فهو مما يمكن القضاء فيه، أما إذا جاء النص بفايل كبير يحتوي على آلاف الكلمات، فهنا ستحدث الصدمة للكاتب، وسيستغرب لماذا هذه الجرأة على وقته وصحته ومشاغله، وسيتحايل على الكلمات لكي يوصل اعتذاره بطريقة لطيفة، مع أنه غير مطالب بهذا الاعتذار أصلاً..










