بغداد / كريم ستار
تشهد العاصمة بغداد أزمة سكن خانقة نتيجة ارتفاع أسعار الإيجارات بشكل غير مسبوق، ما يدفع آلاف العائلات إلى مغادرة أحيائها الأصلية والانتقال إلى مناطق غير مخدّمة على أطراف العاصمة أو حتى إلى محافظات أخرى. في المقابل، تلجأ شرائح واسعة من السكان إلى السكن العشوائي لتجنب الإيجارات المرتفعة التي تفوق طاقتهم المالية.
وزارة التخطيط العراقية تؤكد وجود فجوة سكنية في العاصمة بغداد تتجاوز المليوني وحدة، وسط كثافة سكانية تتخطى 9 ملايين نسمة. المتحدث باسم الوزارة، عبد الزهرة الهنداوي، أوضح أن هذا الواقع ساهم في تنامي العشوائيات وارتفاع الإيجارات، مشيراً إلى توجه حكومي نحو بناء مدن جديدة لاحتواء الطلب المتزايد. إلا أن هذا التوجه لم يترجم إلى نتائج ملموسة حتى الآن.
فيما اشار المهندس المتخصص بالتخطيط الحضري، علي عبد الستار، إلى أن الحلول المطروحة لا تزال في إطار التصريحات الإعلامية، في ظل غياب تخطيط حضري فعّال، وفشل مشاريع الإسكان في الوصول إلى الفئات الأكثر حاجة.
السكن العشوائي ملاذ المضطرين
في حي الحسينية، تعيش أم رائد، أرملة وأم لأربعة أطفال، في غرفة من الصفيح والخشب، بعد أن اضطرت لمغادرة منزلها المستأجر في الزعفرانية إثر رفع بدل الإيجار إلى نصف راتبها الشهري. وتقول: «أعيش هنا بلا كهرباء مستقرة أو ماء نظيف، لكن لا أحد يطالبني بدفع شيء».
أما في منطقة الدورة، فيسكن أبو قاسم، عامل بناء، كوخًا شيده من مواد تالفة. يقول: «أعمل يوماً وأجلس عشرة. لا أستطيع دفع إيجار بيت، فبنيت هذا الكوخ لأحتمي به مع أطفالي. هنا لا خدمات ولا ماء، لكن لا أملك خياراً آخر».
في حي المعامل، تسكن أم محمد في غرفة إسمنتية غير مكتملة. تقول: «لا مدرسة لأطفالي، ولا مركز صحي قريب، والماء نحمله بالدلو من الجيران. قبل ذلك، كنت أتنقل من حي إلى آخر بسبب ارتفاع الإيجارات».
أسعار خيالية ومضاربات بلا رقابة
يشير المواطن محمد شهاب إلى أن ملاك العقارات يرفضون تأجير البيوت لمن لا يحمل صفة موظف رسمي، ما يجعل أصحاب الأجور اليومية عرضة للطرد والتنقل المستمر. ويضيف أن الإيجارات أصبحت «نار» حتى في الأحياء الشعبية، في ظل تدخل «الدلالين» الذين يتفقون مع الملاك على رفع الأسعار لتحقيق أرباح مشتركة، إلى جانب فرض رسوم إضافية على المستأجرين في المباني الحديثة.
المواطن فلاح علي، المقيم في المنصور، يؤكد أن الإيجارات في بغداد تجاوزت مثيلاتها في أربيل، حيث يبلغ إيجار بيت عادي في العاصمة ألف دولار شهرياً، مقابل 400 دولار في كردستان. ويعزو هذا الفارق إلى تدخل جهات متنفذة لغسل أموالها في سوق العقارات، ما أدى إلى تضخم الأسعار بشكل غير مبرر.
ويحذر المراقبون من أن سوق العقارات أصبح بوابة لتبييض الأموال في ظل غياب الرقابة الحكومية، حيث تُشترى وحدات سكنية فارهة في أحياء مثل اليرموك والكرادة بأسعار إيجار تصل إلى 3000 دولار شهرياً، بينما يعجز سكان المناطق الشعبية عن دفع 200 ألف دينار.
الخبير الاقتصادي صفوان قصي يربط هذه الأزمة بغياب سياسة إسكانية واضحة، وافتقار الفقراء إلى قروض ميسرة، وترك السوق تحت هيمنة تجار العقارات وأصحاب النفوذ. ويؤكد أن «الأزمة لن تُحل دون تدخل حكومي مباشر لضبط السوق ومنع المضاربة والاحتكار».
غياب التشريعات.. والمال السياسي في الواجهة
يوضح الخبير القانوني علي التميمي أن غياب قانون ينظم سوق الإيجارات ساهم في خلق حالة من الفوضى، ما جعل العراق من بين الدول الأعلى عالميًا في كلفة السكن نسبة إلى الدخل. ويحذر من آثار اجتماعية خطيرة لهذه الأزمة، من بينها زيادة حالات الطلاق والانتحار الناتجة عن الضغط المعيشي.
في المقابل، أعلنت وزارة الإعمار والإسكان أنها تعمل على إنجاز 16 مشروعًا ضمن برنامج السكن منخفض الكلفة، وتبني مدناً جديدة مثل «الجواهري» و«علي الوردي» في بغداد، و«الغزلاني» في الموصل. إلا أنها أقرت بأن وتيرة التنفيذ بطيئة، وأن القروض الحكومية لا تكفي لبناء وحدات سكنية حقيقية، خاصة في ظل شح الأراضي وارتفاع أسعارها.
الباحث محمد عمران يرى أن غياب التنظيم القانوني جعل السوق العقارية خاضعة لتأثير «المال السياسي»، مضيفًا أن احتكار الأراضي من قبل جهات نافذة وغياب العدالة في توزيعها ساهم في تعقيد الأزمة.
في ظل هذه المعطيات، تتعمق الفجوة بين من يستطيعون شراء العقارات بأي ثمن، وبين فقراء العاصمة الذين لا يجدون مأوى سوى العشوائيات، وسط غياب الخطط الواقعية وتجاهل متطلبات السكن اللائق.










