TOP

جريدة المدى > سينما > العلاج بالسينما.. الفيلم الوثائقي أبو زعبل 89

العلاج بالسينما.. الفيلم الوثائقي أبو زعبل 89

نشر في: 24 يوليو, 2025: 12:26 ص

علي الياسري
يذكر الفنان والكاتب ادريان هيل احد رواد (العلاج بالفن) والشخص الذي صاغ المُصطلح ان الفنون الابداعية هي منتهى الباحثين عن الملاذ الروحي ومن ثمة الامل بغدٍ افضل. فيقول "عندما يغلي العالم بالموت واليأس، يتوق رجل الشارع وكذلك رفيقه الذي يحمل السلاح الى متضادات تُعَّبر عنها الحياة والايمان. وحده الفن من يُغذي هذه الرغبات."
هكذا يحاول المخرج المصري بسام مرتضى بفيلمه ابو زعبل 89 والفائز بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (الفيبريسي) في مهرجان عمّان السينمائي الدولي الدورة السادسة شق طريقه وسط مطبات النفس لتحقيق شفاء روحي يتحرك من الوعي بتفاصيل الاحداث القاسية واللحظات العصيبة والمؤلمة نحو اللاوعي حيث تجمعت رواسب عاطفية قاتمة خدشت براءة الطفولة بعد صدمة عنف السلطة.
كان بسام في الخامسة من عمره حين تم اعتقال والده محمود خلال مداهمة عنيفة لقوات الامن الى منزل الاسرة. عندما رافق والدته في احدى الزيارات الى سجن ابو زعبل سيء السمعة حيث كان والده مُعتقلًا بتهم سياسية في العام 1989 بدت تلك المشاهد الصعبة اقسى على روحه الغضة من اثار التعذيب على جسد والده ورفاقه في المعتقل. انها اصعب من ان تتحملها ذاكرة صبي صغير.
ما بين استخدام الارشيف وتقنيات السينما المختلفة، مع اعادة تجسيد للحظات رعب المساجين من عنف السلطات في السجن، وكذلك مقابلات شخصية وبوح متأخر لوالدته ووالده وايضا مع من زاملوا والده في السجن يُعيد المخرج سرد الحدث حتى الوصول الى لحظات الصدمة النفسية لجميع من مروا بتفصيل تلك الوقائع، وذلك لكي يضع يده على موضع الوجع قبل ان يتحرر منه.
في فيلم ابو زعبل 89 يبدو غياب الاب لوحة عنوان مُعلقة على باب الذاكرة. صورة الغياب هذه تسترجعها على الشاشة مراسلات التسجيلات الصوتية بين الاب المهاجر تحت وطأة الصدمة النفسية وابنه المُفتَقِد للحضور الجسدي والعاطفي للاب. انها تحضر ايضًا في النقاشات العائلية بين الام وولدها، وفي قصاصات الصحف القديمة التي تروي احداث تلك الوقائع. لقد بدى الاب مشحونًا عاطفيًا وهو يشاهد ذلك المونولوج الداخلي على خشبة المسرح لاستذكار اللحظات العصيبة للاعتقال التي اداها الممثل المصري سيد رجب، رفيق حملة الاعتقالات وزميل السجن مع والد بسام.
مثلما كان حنظلة ايقونة الرسام ناجي العلي شاهد ومُستذكِر لقضايا رحلة الانسان الفلسطيني وتغريبته، يقف بسام مرتضى بمقاربة شبيهة الى حد ما امام شاشة تمثل رجع الذاكرة في محاولة لعلاج الندوب النفسية على ارواح العائلة. انه المخرج والراوي والشخصية الرئيسية، يضع المُشاهد من خلاله يده على تاريخ العائلة كما شكلتها عواقب المواقف السياسية، وهو ما يدفع سرد الفيلم الى نواحي عاطفية مشوبة بالألم والامل فيما يتعلق بالعلاقة بين الابوين وابنهما. وأيضًا كنظرة شجاعة في مراجعة التاريخ السياسي المعاصر لمصر. فما بين الصورة الارشيفية المتحركة وكذلك الفوتوغرافية وأشرطة الصوت (كاسيتات) يلملم المخرج شتات الماضي لتأطير ذاكرة عنف السلطة وهو ما يُذكِّر بتأثيرها الهائل في تحطيم النفوس وما يتبع ذلك من تفكيك لروابط الاسرة بعد ان تعاظم شعور عدم الامان بالعيش تحت التهديد المستمر والذي يقطع سير الحياة الطبيعية للفرد الانساني. الطابع الذاتي للسرد الوثائقي ينفتح على بُعده الاخر وهو الوصف لحالة المثقف العربي الذي هزمته قسوة الانظمة الحاكمة في بلدانه والنكبات السياسية والاقتصادية والتحولات الحادة المرافقة لها، فصار انكساره سمة تعطينا كجمهور نظرة فاحصة على اغترابه النفسي والمكاني واختياره المنفى كملاذ بعد الطرد والتهميش الذي امتد الى تواصله الاجتماعي نتيجة التغييرات الخطيرة والوحشية على بنية العلاقات الانسانية وطريقة تفكير الطبقات المكونة للمجتمع بعد تنامي الازمة البنيوية حيث سقطت الاحلام في مستنقع الوهم. شيء حفر اثره بوجدانه وصار فشله في التغيير نكبة مستفحلة يحاول الهروب منها الى الامام دومًا. يسعى بسام بفيلمه الى قراءة هذا البعد الاشكالي لواقع الطليعة المثقفة بعد صدمة الهزائم التي حاصرت طموحاتهم وأسلمتهم لعزلة عاطفية وانسلاخ فكري وتراجع ثوري واضح.
كان الايقاع السردي في الفيلم متزنًا حاول ان يقف على الاسباب قبل ان ينتقل بسلاسة الى خلاصة النتائج ثم ليتجه نحو المرحلة الاخيرة في التحرر من كل تلك الرواسب القاسية على النفس لبسام وللعائلة. وربما كان ذلك هو ما دفعه لتركيز اشتغاله الفني على السرديات المُهمَلة والظُلم الاجتماعي وسيّر النُشطاء.
يمكن اعتبار فيلم أبو زعبل 89 مثالاً واعداً لإمكانيات السينما الوثائقية في مساعدة المجتمعات في العالم العربي على التعامل مع صدماتها وفتح مسارات نماء انساني نحو مستقبل أفضل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

رحلة إلى عوالم البحر الأحمر السينمائي

مقالات ذات صلة

سينما

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

متابعة: المدى لم يلبث فريق عمل الفيلم المصري "الست" أنْ عرَض الإعلان الترويجي للفيلم الذي يجسّد حياة "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي تقوم بدور شخصيتها الفنانة المصرية منى زكي، حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram