بغداد / تبارك عبد المجيد
في محافظة البصرة، التي تُعدّ الشريان الاقتصادي للعراق والمصدر الرئيس لثرواته النفطية، يتعايش سكان بعض أقضيتها مع واقع إداري هش، ومؤسسات حكومية تعمل من كرافانات مؤقتة، بينما تُنهب أراضٍ عامة وتُحوّل إلى مشاريع استثمارية وهمية.
وسط هذا التناقض الصارخ، تتكشف يومًا بعد آخر ملفات فساد خطيرة، لا تقتصر على المال العام فحسب، بل تمتد لتطال البُنى التحتية لحياة الناس اليومية، من السكن إلى الخدمات.
يعمل موظفو دوائر الدولة في كرافانات مؤقتة، ويتنقل المواطنون بين الدوائرِ الخدميةِ المحشورة في غرف ضيقة لا تليق بمؤسسة رسمية. في المقابل، تُدار أراضٍ شاسعة في القضاء نفسه كمشاريع «استثمارية»، حصلت على الأرض بصفقات يصفها الناشط السياسي، ماجد البصري، بـ «المشبوهة».
ويقول لـ «المدى»، إن أصل المشكلة يكمن في «تفاصيل صغيرة تتضخم لتصنع فسادًا كبيرًا، وعند تنفيذ عمليات إفراز الأراضي، تُمنح بعض المساحات الصغيرة (الفضلات) بطرق غير قانونية، من خلال تواطؤ بعض الموظفين في دوائر البلديات والتسجيل العقاري، الذين يتصرفون بالأرض العامة كما لو أنها أملاك شخصية، متجاوزين الوزارات المعنية والرقابة القانونية».
من بين أبرز القصص التي أشار إليها ماجد، قطعة أرض حكومية تبلغ 900 دونم، كانت تابعة لوزارة المالية. سرعان ما أصبحت موضع صراع بين عدة جهات محلية، استُخدمَت فيها التهديدات والضغوط، حتى استقرت الأرض أخيرًا تحت سلطة إحدى الجهات المتنفذة. ويضيف أن «المثيرَ في الأمر أن البلدية لم تتدخل، وظلت تراقب من بعيد، رغم أن القضاء الذي يضم الأرض نفسها يعاني من نقص صارخ في المباني الخدمية».
في قصة أخرى، تحدّث عن قطعة أرض كانت مخصصة سابقًا لتربية طيور السمان. وبموجب مزايدة يُشكك في شفافيتها، تحولت الأرض إلى مشروع استثماري لا أثر له على مستوى الخدمات أو التنمية المحلية، ما عده البصري نموذجًا إضافيًا على حرمان أبناء القضاء من حقوقهم الطبيعية.
ولم يتوقف الفساد عند حدود الأراضي، بل امتد إلى مشاريع بلدية صغيرة، تُمرّر تحت سقف قدره 100 مليون دينار لتبقى في نطاق صلاحيات البلديات دون الحاجة إلى مناقصات علنية. وأوضح أن «بعضُ الناشطين قدّموا مستندات وشكاوى إلى هيئة النزاهة في البصرة، توثق عمليات تجهيز حاويات، وبناء متنزهات، وغيرها من المشاريع التي لا تترك أثرًا على الأرض، بل تفتح أبوابًا لتربّح ضيّق».
ويُبيّن البصري أن «الناس يتحدثون كثيرًا عن فساد النفط، لكن ما يجري في البلديات أخطر، لأنه يطال حياة الناس اليومية: منازلهم، شوارعهم، مدارس أطفالهم، وحتى مراكز الرعاية الصحية».
ويضيف: «غياب المساءلة هو الخطر الحقيقي. فحتى إن وُجدت القوانين، لا توجد جهة حقيقية تنفذها، في ظل تقاطع النفوذ وتشابك المصالح».
وأعلنت هيئة النزاهة الاتحادية عن ضبط مسؤول شعبة الحسابات في مديرية التسجيل العقاري بقضاء الزبير في محافظة البصرة، بتهم تتعلق باستغلال الوظيفة والاستيلاء على المال العام دون وجه حق.
وقال مدير إعلام الهيئة، علي محمد، لـ «المدى»، إن «ملاكات مديرية تحقيق البصرة التابعة للهيئة تمكّنت من ضبط المتهم متلبسًا بحيازة سند عقار تبلغ مساحته 14 دونمًا، وتُقدّر قيمته بنحو 7 مليارات دينار عراقي».
وأوضح محمد أن التحقيقات كشفت عن قيام المتهم بتعمد تأخير معاملات المراجعين، لإجبارهم على دفع رشى مقابل تسريع إنجاز معاملاتهم، فضلًا عن استقطاع وصولات وتسلم مبالغ نقدية خارج الأطر القانونية.
وأضاف أن فرق الهيئة ضبطت أيضًا مبالغ مالية بقيمة 76 مليونًا و64 مليون دينار، بالإضافة إلى مصوغات ذهبية، وعجلة تُقدّر قيمتها بأكثر من 70 مليون دينار، فضلًا عن عقود بيع وشراء لمجموعة كبيرة من السيارات.
وأشار محمد إلى العثور على تقارير عقارية مختومة بختم الكشف فقط، دون ملء البيانات المطلوبة، ما يعزز الشبهات حول التلاعب والتزوير في الإجراءات الرسمية داخل الدائرة المعنية. ودعا الناشط المدني، أبو الحسن الشاوي، هيئة النزاهة الاتحادية إلى فتح تحقيق ميداني عاجل بمحافظة البصرة، في إطار حملة مكافحة الفساد الإداري، مسلّطًا الضوء على ما وصفه بـ «التلاعب الكبير» في ملف الأراضي المملوكة للدولة. وقال الشاوي لـ «المدى»، إن «قضية الفساد الإداري المرتبطة بتوزيع قطع الأراضي العائدة لوزارتي البلديات والمالية باتت تمثل واحدةً من أكبر مظاهر الهدر والاستغلال في قضاء المدينة»، مشيرًا إلى أن هناك أراضيَ شاسعة تم التصرف بها بذريعة الاستثمار أو بيعها بطرق يُشتبه بعدم قانونيتها، في حين يُحرَم القضاء من أبسط الدوائر الخدمية بحجة عدم وجود أراضٍ مخصصة للدولة.
وتابع الشاوي: «من غير المنطقي أن يفتقر القضاء إلى بنايات لدوائر مهمة مثل التقاعد، الجوازات، المرور، والبطاقة الوطنية، بينما توجد مئات الأراضي (الفضلات) التي تم توزيع بعضها سابقًا بشكل مجاني، فيما تم بيع البعض الآخر دون معرفة تفاصيل دقيقة عن آلية البيع وأهدافه».
وأكد أن «هناك من يحاول الاستحواذ على ممتلكات الدولة في القضاء لخدمة مصالحه الخاصة، ما يَحتِم على الجهات الرقابية التدخل العاجل لإنقاذ ما تبقى من أراضي المدينة، وقطع الطريق أمام المافيات والمتنفذين الذين يعبثون بثروات القضاء ومقدراته».
وذكر الباحث في السياسات العامة من البصرة، علي المظفر، إن محافظة البصرة، رغم كونها الشريان الاقتصادي الرئيسي للعراق، تعيش تحت وطأة منظومة فساد مترابطة لا تقتصر على تجاوزات فردية، بل تمتد لتخترق مؤسسات الدولة وتعطّل جهود الإعمار والتنمية، محذرًا من أن الواقع الحالي في المحافظة لا يعكس سوى القمة الظاهرة لجبل جليد ضخم من الفساد والإفلات من العقاب.
وأكد المظفر لـ «المدى» أن ما تم كشفه مؤخرًا من تلاعب في قيود عقارات الدولة «ليس إلا جزءًا بسيطًا من واقع أكثر تعقيدًا وخطورة، تشترك فيه أطراف نافذة ومسؤولون محليون يعبثون بالمال العام، ويمنحون الأراضي، ويستحوذون على الأملاك العامة باسم مشاريع وهمية أو تخصيصات غير قانونية»، مشيرًا إلى أن هذه الممارسات «تكشف بوضوح عن غياب الرقابة الفعالة وتقصير الجهات الرقابية في أداء مهامها».
وفي هذا السياق، دعا المظفر الحكومة الاتحادية وهيئة النزاهة إلى «تحرك عاجل وجاد لفتح كافة ملفات الفساد في البصرة، ومحاسبة كل من تورط أو تستر على التجاوزات»، معتبرًا أن «حماية المال العام واستعادة أملاك الدولة هما الخطوة الأولى نحو بناء دولة قائمة على العدالة والقانون». وأضاف: «البصرة ليست مدينة هامشية، بل قلب العراق الاقتصادي ومنفذه البحري الوحيد، وتحتضن ثلثي احتياطاته من النفط وحقول غاز طبيعية ضخمة، وهي المصدر الرئيس لإنتاج وتصدير النفط العراقي، ومع ذلك، تُنهب في وضح النهار وتُدار بمنطق المحاصصة والصفقات، لا بمنطق الدولة الرشيدة».
وتحدث المظفر عن خطورة تغييب الرقابة الشعبية، واصفًا ذلك بأنه «أحد أبرز أسباب تغوّل الفساد في العراق، وليس في البصرة فقط». وقال: «الرقابة الشعبية أو المجتمعية تمثل الركن الثاني في النظام الديمقراطي إلى جانب الانتخابات، وبدونها تفقد الديمقراطية توازنها وتتحول تدريجيًا إلى نظام تفردي أقرب إلى الديكتاتورية».
وبيّن أن «الناشطين هم في الحقيقة المواطنون أنفسهم، والناخبون الذين يملكون الحق في مراقبة السلطة وتصحيح مسارها، والتأكد من عدم انحرافها عن المبادئ الديمقراطية أو خضوعها للمصالح الحزبية والشخصية». وشدّد على أن «العمل في الظلام يُرضي الفاسدين، ويُغذّي سلوكهم، ويقود إلى هدر المال العام وتأخير عجلة الإعمار».
وأضاف: «غياب الرقابة المجتمعية سهّل للفساد أن يستشري في مؤسسات عديدة، بل إن بعض هذه المؤسسات باتت تنظر إلى هذه الرقابة كتهديد وتسعى إلى تحييدها بذريعة الإخلال بالنظام، رغم أن دورها الحقيقي هو التصحيح والتقويم». وفي سياق متصل، كشف المظفر عن وثائق رسمية تؤكد فتح ملف ضخم لشبهات فساد في البصرة، شمل عشرات الشركات العاملة في مجالات التخليص الجمركي، والتجارة العامة، والخدمات اللوجستية. وأشار إلى أن هذه القضايا «تدل على شبكة فساد ممنهجة، تضم أطرافًا من داخل مؤسسات الدولة وخارجها، حيث يتم تمرير صفقات مشبوهة مقابل رشى وتواطؤ إداري واضح».










