أحمد حسن
لفهم شفرة رداءة الوعي النخبوي في العراق لا بد من التوقف عند مفهوم "الخصاء المنهجي" وهو ليس مجرد استعارة وانما توصيف دقيق لسياسة متعمدة تستهدف العقل لا الجسد وتحاول نزع القدرة على التفكير الحر والتحليل النقدي من الأفراد خصوصا من النخب الثقافية والأكاديمية.
الخصاء هنا لا يعني الإلغاء الجسدي بل هو خصاء رمزي وفكري يُمارس عبر أدوات النظام السياسي والثقافي والتربوي لإنتاج عقل طيع منزوع القدرة على الشك والمساءلة وأيضا يكون عاجز عن رؤية السلطة كموضوع للنقد أو حتى الذات كموضوع للتفكير.يتجلى هذا الخصاء من خلال أنظمة تعليمية تشجع الحفظ وتخنق التحليل عبر إعلام يقمع فيه السؤال ومناهج تقصى منها الفلسفة وجامعات تتحول إلى مؤسسات للولاء الحزبي والطائفي والعشائري ومنافع الشخصية. لا للمعرفة.
وبالتالي لو نظرنا الى مطلع الثمانينيات اذ بدأ العراق يتعرض لتحول كارثي في بنية المعرفة وهذا لا بسبب الحرب مع إيران وانما بفعل ما يمكن تسميته بـ"الخصاء المنهجي للعقل العراقي" وهي سياسة متعمدة أسس لها نظام صدام حسين عام 1979 ومارستها مؤسسات الدولة التربوية والثقافية على مدار عقود لتحويل الإنسان العراقي من كائن عاقل مبدئي محلل وناقد إلى كائن منزوع القدرة على التفكير عاجز عن مساءلة السلطة أو مساءلة ذاته. وهذه الاستراتيجية تقوم على فكرة ان الجهل أداة حكم فكلما زادت كثافة الجهل قلت مقاومة المجتمع، وكلما زاد التعليم الشكلي ضمنت الدولة وجود نخبة طيعة تلبس قناع الثقافة لكنها لا تنتج سوى الطاعة. لا المعرفة.
بعد عام 2003 لم تسقط هذه الاستراتيجية العميقة بل على العكس أعادت النخب السياسية الجديدة إنتاجها بل وسعتها وأدلجتها تحت غطاء ديمقراطي هش فتحولت الجامعات العراقية في كثير من الحالات إلى حقول لإعادة إنتاج العطب مما انتجت نخبة لم تكن في غالبها نخبًا فكرية وشجاعة حقيقية بل كانت واجهات طائفية و حزبية وعشائرية أو تابعة لجهات مسلحة وكان الهدف من دمجها في الحقل الأكاديمي لا بهدف البناء والمساهمة في تحسين اخلاق المجتمع وانما للقيام في أداء دور الوصي في حماية استراتيجية تجهيل المجتمع.
بلغة أوضح لم تكن هذه النخب تبحث عن الوضوح والتمييز بل عن السيطرة والامتثال. فتم قمع التفكير النقدي وحوصرت الفلسفة وشيطنت كل مادة تُحفز العقل والسلوك المستقل. وصار ينظر إلى الذكاء والسؤال كتهديد لا كقيمة وأُقصي كل أستاذ حر لا ينتمي إلى الخط. حتى الامتحانات أصبحت أدوات قمع رمزية تـمتحن فيها القدرة على الحفظ لا على التحليل وعلى التكرار لا على الابتكار.
بل الأسوأ من ذلك أن هذه النخبة وقد سيطرت على وزارة التعليم العالي وبدأت تدير الجامعات بوصفها مزارع أيديولوجية لا مؤسسات علم. فانتشرت الجامعات الأهلية الخاصة بتمويلات حزبية وتحولت الشهادات إلى صكوك ولاء لا دلائل كفاءة. لقد صار العقل في العراق تابعا للسلطة لا شريكا في بنائها. وهنا تتجلى المفارقة الموجعة. . كيف يمكن لمجتمع أن ينهض حين تكون نخبته الأكاديمية نفسها مخصية فكريا؟
وكيف يمكن لمشروع وطني أن يتأسس حين يكون الأستاذ الجامعي مخصيا علميًا والمستشار الوزاري مخصيا في إرادته والمثقف مخصيا في حريته والمهندس مخصياً في كفاءته والطبيب مخصيا من انسانيته ورجل الدين مخصياً من قول الحقيقة والقاضي مخصياً من العدالة؟
في هذه الحالة من يتولون إدارة الدولة وتثقيف المجتمع هم نسخ مخصية عن القرار والوطنية ومشلولة عن التفكير خارج حدود الطائفة أو الحزب أو الامتياز الشخصي وبذلك لا تنتج السلطة الحاكمة منذ 21 عاما أي سلوك انساني ووطني بل اعادت انتاج مجتمع مفرغ من أدوات التغيير والمفاهيم الأخلاقية الاساسية.
ومفهوم النخبة المخصية ليس وليد لحظة غضب بل هو امتداد نقدي لمفاهيم سبق أن ناقشها مفكرون كبار، فرانز فانون في تحليله للنخب ما بعد الاستعمار ـ الكولونيالية اذ رأى أن النخب تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة.
بيير بورديو Pierre Bourdieu كشف كيف يعاد إنتاج الجهل داخل الحقول الأكاديمية عبر العنف الرمزي وميشيل فوكو Michel Foucault عرى تواطؤ المعرفة مع السلطة وإدوارد سعيد نبه إلى خطورة المثقف الموظّف. أماأنطونيو غرامشي Antonio Gramsci فقد ميز بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي وهاجم من يلعبون دور التابعين لهيمنة الدولة. هؤلاء، كل بلغته ومفاهيمه وصفوا شكلًا من أشكال الخصاء الرمزي الذي يحول العقل من قوة تحرير إلى أداة امتثال.
رينيه ديكارت Descartes René الذي أسس لفلسفة الشك كأداة للمعرفة يمكن أن يسألنا اليوم. . هل يشك العراقي في السلطة؟ في الأستاذ؟ في الجامعات؟ بكل تأكيد الإجابة المؤلمة.. لا. لأن الشك قد خصي هو الآخر وتمت محاصرته داخل خطاب احترام الرموز والثوابت والخطوط الحمراء والمقاومة.
ولذلك، لا غرابة أن جيلًا كاملًا من الخريجين في العراق اليوم يفتقر إلى الأدوات التحليلية والخبرة واللغات الأجنبية ولا يملك أي تصور مفهومي عن العالم رغم أنه يحمل شهادة جامعية. فالجامعة لم تعد مكانا لإنتاج الوعي بل صارت مسرحا لاستعراض الهويات القاتلة والولاءات المريضة. والنخب بدل أن تقود التغيير صارت جزءًا من جهاز إنتاج الرداءة. بعضهم اختبأ خلف عباءة الوطنية وآخرون لبسوا رداء الحداثة، لكن الجميع في النهاية خضع لمنطق الخصي ذاته:
ـ خصي السؤال
ـ خصي الحرية
ـ خصي العقل
ـ خصي الصدق
ـ خصي النزاهة
ـ خصي الوطنية
فلا غرابة أن يقصى المثقف الحقيقي ويلاحق الطالب الذكي ويشيطن الصحافي المستقل في بلد باتت فيه المعرفة جريمة والجهل امتيازا سياسيا.
بالتالي، إذا أرادت اي نخبة صاعدة في العراق أن تستعيد مشروعها الوطني الحقيقي فعليها أولًا أن تعيد اكتشاف السلوك. . لا سلوك الخضوع بل سلوك التفكير، والشك والتحليل والمساءلة وبدون ذلك تبقى الحلقة المغلقة تدار في مكانها وتعيد إنتاج الجهل باسم العهد الجديد او باسم التغيير والإصلاح السياسي ويُمارس فيها الخصي باسم عنوان جديد وتفرض فيها العتمة مجددا باسم النخبة الجديدة.











جميع التعليقات 1
نمير المهندس
منذ 4 شهور
أصبت واحسنت القول.