TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين اللغة والكينونة: قراءة في شعرية الفوضى في نص عبدالرحمن طهمازي

بين اللغة والكينونة: قراءة في شعرية الفوضى في نص عبدالرحمن طهمازي

نشر في: 29 يوليو, 2025: 12:01 ص

إسماعيل نوري الربيعي

يندرج نص عبدالرحمن طهمازي، " الآن وهـا هـنـا"، جريدة المدى 27 تموز 2025. ضمن الكتابات النثرية ذات الطابع الشعري والفلسفي، حيث يتشابك فيها البُعد الوجودي مع السياسي، ويتداخل التأمل الفردي مع التاريخ الجمعي. ويتميّز هذا النص ببنية لغوية متشظّية، وبانفتاح دلالي كثيف، يموضع القارئ في تجربة قراءة ذات طابع تأويلي لا نهائي. فهو نص لا يُقارب عبر الخطاب البلاغي التقليدي، بل عبر أدوات تحليل النصوص الحداثية وما بعد الحداثية، نظرًا لما يطرحه من إشكالات على صعيد اللغة، والزمن، والهوية، والسلطة، والذاكرة. يتّخذ النص من اللغة بؤرة دلالية قائمة بذاتها؛ إذ لا تُمثّل أداة محايدة للتوصيل، بل تتحوّل إلى كائن عضوي ينبض ويتألم ويفكّر. فاللغة هنا، وفق منطق رولان بارت، لا تقول الحقيقة، بل تصنعها، وهي منخرطة في إنتاج المعنى لا في نقله. يظهر ذلك جليًا في توظيف طهمازي لانزياحات لغوية مكثفة، وتراكيب متراكبة تستدعي التأويل أكثر مما تُنتج وضوحًا، مثل قوله: وهذا هو المعنى المستعار الذي تنتظره اللغات كالألوان التي تختبر الغموض البعيد..." كما تتكرر البُنى القائمة على المفارقة والتضاد المجازي، مما يجعل من اللغة ذاتها موضوعًا للصراع بين الدال والمدلول، بين الرمز والحقيقة، وهي سمة من سمات النثر الشعري في سياقاته الحداثية. يُقدّم النص مقاربة فريدة للزمن، لا بوصفه ترتيبًا كرونولوجيًا للأحداث، بل كحقل سيكولوجي مفتوح، يتماهى فيه الحاضر بالماضي، وتتشظّى الذاكرة بين الطفولة والحلم والأسطورة. فزمن النص هو زمن مضطرب، دائريّ، متداخل الطبقات، تختلط فيه جنازة "إنكيدو" بـ"العنقاء"، وتتماهى فيه الطفولة الضائعة مع التاريخ المنكسر. إن هذا الزمن المفكك يعكس لا استقرار الوعي العربي المعاصر، ويُحيل إلى أزمة حضارية ممتدة، يصوغها النص بأسلوب مجازي متوتر: وكان الماضي يريد أن يبقى قريبًا من بيوتنا ونحن ندفع أبنيتنا إلى البعيد... وهكذا نقوم بالهجرة البلاغية." الزمن إذًا ليس محايدًا، بل يمثّل موقعًا للصدمة والانكسار والتأمل الوجودي.
سلطة المرايا وتمثلات السلطة
يحتل مفهوم السلطة، كما يظهر في النص، موقعًا مركزيًا يتجاوز التمثيل السياسي المباشر، ليتموضع في إطار أوسع يشمل الخطاب الاجتماعي والنفسي. فالسلطة ليست جهازًا بيروقراطيًا، بل فضاء رمزيًا مراوغًا، يحضر في "المرايا العدوانية"، و"السلطات المتكاثرة"، و"الهزائم المغلّفة بالأقنعة". يتقاطع هذا التمثيل مع أطروحات ميشيل فوكو حول انتشار السلطة وتغلغلها في نسيج الحياة اليومية. وبالمقابل، تبدو الذات الجمعية – ممثّلة بـ"الشعب"، و"الأطفال"، و"الأحلام" – ذات حضور هشّ، ضائع في متاهة من الرموز، تائه بين الحلم والواقع، بين الأمل والخذلان. يعمد طهمازي إلى توريط الموروث الأسطوري والرمزي في سياق نقدي متجدد، مستعيدًا رموزًا كـ"العنقاء"، و"نوح"، و"إنكيدو"، ضمن فضاء لغوي يوظّفها بوصفها إشارات إلى فشل الخلاص، أو سقوط الفردوس، أو عبثية الانتظار. لكن هذه الرموز لا تُستدعى على نحو استعلائي، بل تُجرّد من قدسيتها وتُزجّ في اليوميّ والفوضويّ، في محاولة لإعادة كتابة الميثولوجيا في ضوء التجربة المعاصرة.
الوعي الفوضوي وتيار اللاوعي
يُكتب هذا النص من موقع اللايقين، حيث تتشابك الصور والعبارات ضمن ما يشبه تيار الوعي أو "تدفّق اللاوعي"، وفق التعبير النقدي الحداثي. فالنص لا يخضع لبنية سردية منطقية، بل يتقدّم على شكل انفعالات وجدانية، وتحولات مفاجئة، وأسئلة متلاحقة، وصور تتراكب دون خضوع لسببية ظاهرة. بذلك، تنفتح تجربة الكتابة على فضاء رمزي كثيف، تتوزّع فيه الذات بين الحلم والقلق والحنين والموت والأمل واللغة والتاريخ. يشكّل نص عبد الرحمن طهمازي تجربة جمالية وفكرية متفرّدة، تقع عند تقاطع النثر الشعري مع الفلسفة الرمزية، وتستدعي أدوات التأويل الحديثة في قراءتها. فالنص لا يُبنى حول "قضية" بل يتناسل منها، ويقارب الوجود باعتباره معضلة لغوية أولًا، وميتافيزيقية ثانيًا، وسياسية-حضارية ثالثًا. ومثلما تمضي كلماته بين الحلم واليقظة، بين الحنين والخراب، فإنها تُمهّد لكتابة عربية جديدة، تنبني على تفكيك المعنى، لا على بنائه، وعلى مساءلة الزمن لا تأريخه، وعلى استعادة الذات لا تمجيدها.
يتسم هذا النص بكثافة رمزية، وتضام شعري يحيل إلى عالم مضطرب، تهيمن عليه مفارقات الوجود والسلطة والذاكرة. تنبع قوته من قدرته على توظيف المجاز لتصوير واقع مأزوم، حيث "الأموات والسجون" يحرسون "البلاد التذكارية"، في استعارة تلغي الحدود بين التاريخ والسياسة، بين الحياة والموت. تتقدّم "الأسطورة" هنا بوصفها قوة خيالية تتجاوز "أنصاف الحلول"، محاولة إضفاء معنى على فوضى الواقع، لكنها لا تنجح في تحقيق الخلاص بل تزيد من حدة الانقسام. تحضر مفردات مثل "الظل المكبوت"، "النداء الأول"، و"الخيال" كمكونات لهوية بشرية تسعى لفهم ذاتها، وسط عالم تسيطر عليه "فنادق السياسة الخارجية" و"العار الذهبيّ" الذي يربط الرمزية بالاغتراب السياسي. تتوالى الصور الحسية كـ"خندق الجليد الرملي" و"احتراق الأرغن"، لتجسد حالة نفسية جماعية تتأرجح بين الذهول والانهيار. النص يجنح نحو أسلوب تيار الوعي، حيث تتزاحم الأفكار بلا تراتبية سردية، مما يعكس تشظي الذات المعاصرة. في النهاية، يبقى "الحزن السالب" و"الخيال، الذي ما زال يعمل" علامتين على مقاومة داخلية، لا تزال تبحث عن معنى. في عالم يتداعى تحت وطأة التزييف السياسي والخراب الرمزي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram