علاء المفرجي
في كتابها (حياة اللغات العظيمة) الصادر عن دار المدى بترجمة د. رشا صادق، تدرس كارلا ماليت طبيعة وسلوكيات لغات التعلم العالمية في العصور الوسطى - العربية الفصحى واللاتينية في العصور الوسطى - أثناء عبورها البحر الأبيض المتوسط. من خلال حكايات العلاقات بين الكُتّاب والمُجمّعين والمترجمين والمُعلّقين والنساخ، تروي ماليت قصةً مُعقّدة عن انتقال المعرفة في الفترة التي سبقت ظهور نظام اللغة الوطنية في أواخر العصور الوسطى وبداية العصر الحديث.
تُظهر ماليت كيف أن لغات التعلم والثقافة النخبوية لم تكن مرتبطةً إلا ارتباطًا ضعيفًا بلغات الحياة اليومية. استغرق إتقان هذه اللغات سنواتٍ من الدراسة، مُمثّلةً الانتقال من الطفولة الفكرية إلى النضج. في خاتمة الكتاب، تتكهّن ماليت بمستقبل اللغات العالمية في القرن الحادي والعشرين، ومخاطر أحادية اللغة، وأخلاقيات اختيار اللغة. يقدم الكتاب رؤية ثاقبة لأي شخص مهتم بإعادة التفكير في التقاليد اللغوية والأدبية، ونقل الأفكار، والتعبير الثقافي في عالم متعدد اللغات على نحو متزايد
يتناول هذا الحديث العلاقات المتشابكة بين اللغات العالمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط ما قبل الحداثة. ففي أوساط النخبة، كانت اللغتان العربية واللاتينية بمثابة أدوات لتركيز الفكر وتسهيل التحليل. وقد وفّر تعليم هذه اللغة تكوينًا فكريًا وجماليًا وأخلاقيًا، يُعتبر أساسيًا للانخراط في الحياة العامة. وفي الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، سهّلت لغة تواصل التواصل بين أناس لا يتشاركون لغة مشتركة: اللغة المشتركة المتوسطية. واليوم، تُذكر هذه اللغة عادةً كلغة القراصنة والسجناء. لكن الحجاج والتجار الشرفاء، وحتى الكهنة والدبلوماسيين، تعلموا اللغة المشتركة كأداة للتواصل عبر الحدود اللغوية. يدرس كتاب "حياة اللغات العظيمة" هذه الأدوات اللغوية بهدف التفكير في الاستراتيجيات التي تستخدمها اللغة لتجاوز الحدود التي تخلقها - ولإزالة الطابع المألوف عن نظام اللغة الوطنية في أوروبا الحديثة، الذي يقترح استخدام اللغة الأم كوسيلة ثقافية.
تناقش ماليت "اللغات الكوزموبوليتانية" (الكونية) من منظور كيف أن اللغات القديمة مثل العربية الكلاسيكية واللاتينية كانت تتجاوز الحدود اليومية والثقافات المحلية، فتصبح أدوات للتواصل الفكري ونقل المعرفة في منطقة البحر المتوسط. تشير الكاتبة إلى أن هاتين اللغتين لم تكن لهما علاقة مباشرة بلغات الحياة اليومية، واحتاجتا لسنوات من الدراسة لتعلمهما وإتقان آدابهما، مما مثل عبوراً من الطفولة الفكرية إلى النضج المعرفي.
يركز الكتاب في 13 فصلاً على كيف ارتبطت العربية واللاتينية بدور الترجمة، وكيف شكلت هاتان اللغتان معابر للفكر والتجارة والتبادل الثقافي بين الغرب والشرق. وتوصف اللغتان بأنهما "لغتان إسكندريتان"، أي لغات ذات وزن تاريخي وجغرافي وثروة معجمية ضخمة وواسعة الأثر. كما تعالج المؤلفة مفهوم اللغة الكوزموبوليتانية كخيار شخصي (مثال: بشار بن برد وبتراك ودانتي) وكوسيلة لمن أصبحوا نازحين أو رحالة أدوات للعيش والحماية والتواصل الفكري. ويناقش الكتاب قضايا فكرية مثل أثر الترجمة على تطور الشعر والفلسفة، وتتناول بشكل خاص مصطلح "الحكاية" في العربية وانتقاله إلى التقاليد الإيطالية واللاتينية.
وتعتبر ماليت أن دراسة العربية واللاتينية أمر حيوي لفهم العلاقة بين تطور اللغات المحلية وبناء الثقافات المختلفة في "عالم متوسطي" عابر للجغرافيا والسياسة القومية. لكنها تنتقد الرؤية التقليدية التي ترى اللغات من منظور الدول القومية، وتستبدلها بمنظور متوسطي متداخل يرفض الحدود السياسية لصالح الشبكات الثقافية.
يعد كتاب ماليت إضافة نوعية في ميدان دراسات البحر المتوسط وتاريخ اللغات، ويشكل مرجعًا مهمًا لأي باحث في التاريخ الثقافي، الترجمة، وآداب العصور الوسطى. يقدم رؤية جديدة حول كيف أن التبادل والعلاقة بين اللغتين العربية واللاتينية أسهما في بناء عالم متوسطي غني بالمعرفة والتنوع.
حياة اللغات العظيمة العلاقة بين تطور اللغات المحلية وبناء الثقافات المختلفة

نشر في: 30 يوليو, 2025: 12:01 ص









