ميسان / مهدي الساعدي
تتواصل الكوارث البيئية التي تضرب أهوار محافظة ميسان وسط تدهور مستمر طال جميع أبعاد الحياة البيئية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، كان آخرها موجة حرائق القصب التي غطى دخانها مناطق واسعة من المحافظة، وسط تساؤلات حول أسبابها وتداعياتها. وبينما تتعدد الروايات، تبقى هذه الحرائق إحدى حلقات المعاناة المتواصلة التي تشهدها أكبر محافظة عراقية من حيث مساحة الأهوار والمسطحات المائية.
ميسان.. محافظة الأهوار المنكوبة
تتمتع محافظة ميسان بموقع متقدم بين المدن العراقية من حيث مساحاتها المائية، خصوصاً قبل حملات التجفيف التي طالت الأهوار منذ الثمانينيات والتسعينيات، وما أعقبها من موجات جفاف. ووفقاً لما يقوله الناشط البيئي والمستكشف أحمد الساعدي لصحيفة «المدى»، فإن مساحة الأهوار العراقية تتراوح بين 15 إلى 20 ألف كيلومتر مربع، وتشمل هور الحويزة في ميسان، وهور الحمار في ذي قار، والأهوار الوسطى، لكن النسبة الأكبر من هذه المساحات فقدت بسبب قلة الإطلاقات المائية وانحسار الأمطار.
وأضاف الساعدي أن «هور الحويزة يعد من أكبر أهوار العراق، ويمتد على مساحة تتراوح بين 3000 و3500 كيلومتر مربع، يقع الجزء الأكبر منه داخل العراق (نحو 2500 كلم مربع)، وقد أدرج على لائحة التراث العالمي عام 2016، لكنه اليوم يعاني من جفاف تام».
تدهور مستمر ومعاناة متعددة الأوجه
تفاقمت أزمات الأهوار خلال السنوات الأربع الماضية، وفق ما يؤكده الناشط البيئي مرتضى الجنوبي، الذي أوضح لـ«المدى» أن الجفاف أدى إلى خسارة السكان لمصادر رزقهم من صيد الأسماك وتربية المواشي، خصوصاً هذا العام الذي وصفه بـ«الأقسى» بعد أن جفت ذنائب الأنهار تماماً، ما تسبب بهلاك الثروة السمكية والحيوانية والزراعية، ودفع مئات العائلات إلى النزوح.
ويحذر المستكشف البيئي أحمد الساعدي من أن «الجفاف الحالي يمثل مؤشراً بالغ الخطورة على الثروات الطبيعية، إذ سينعكس سلباً على الاقتصاد العراقي، وسيفاقم من ظاهرة التصحر، ما يهدد سكان الجنوب بكوارث بيئية جسيمة».
من جهته، أشار الباحث البيئي أحمد صالح نعمة في تصريح تابعته «المدى»، إلى أن «غياب مبدأ تقاسم الضرر في إدارة أزمة المياه أدى إلى جفاف المحافظات الجنوبية، ونفوق الجاموس، وهلاك مليارات الأسماك، وانهيار السياحة البيئية في الأهوار»، محذراً من أن عدم هطول الأمطار حتى شهر تشرين الثاني سيقود إلى أزمة مياه خانقة قد تشمل حتى العاصمة بغداد.
التغير المناخي أم فشل الإدارة؟
رغم تبني الجهات الحكومية لرواية التغير المناخي كمسبب رئيسي للأزمة، إلا أن ناشطين بيئيين يرون أن الأزمة أعمق، ويعزونها إلى فشل إداري. وقال الناشط مرتضى الجنوبي لـ«المدى»: «نحن كأهالي الأهوار لا نرى أن التغير المناخي هو السبب المباشر، بل السياسات الحكومية المتعاقبة التي مارست قطع المياه تجاه الأهوار، وتعاملت مع هذا الملف بمنهجية تجفيفية». وأيد الباحث أحمد صالح نعمة هذا الطرح، محملاً وزارة الموارد المائية مسؤولية الأزمة، واصفاً الشح المائي في ميسان بأنه «الأقسى منذ عقود»، بسبب امتلاك المحافظة أطول شبكة إروائية في العراق، مما يجعلها الأكثر تضرراً.
تحويل الأهوار إلى مشاريع
الجفاف كشف عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تغمرها المياه، ما فتح الباب أمام مشاريع جديدة أثارت جدلاً واسعاً، من بينها إنشاء سد ترابي فاصل بين العراق وإيران داخل هور الحويزة، واستكشاف مواقع نفطية ضمن جولات التراخيص الخامسة.
وقال الناشط الجنوبي لـ«المدى»: «جرى تحويل مناطق من الأهوار إلى مواقع نفطية، في ظل غياب تام لدور الجهات المختصة مثل دائرة إنعاش الأهوار والبيئة، التي لم تتابع أو توثق الانتهاكات التي طالت بيئة الأهوار». وأشار إلى أن الأهالي وثقوا هذه التجاوزات وقدموا مطالبات بتوفير الحصص المائية دون أن تلقى أي استجابة من الحكومات المتعاقبة.
حرائق القصب والدخان الخانق
في ظل الجفاف، تحولت غابات القصب الجافة إلى وقود للحرائق، والتي تكررت في السنوات الأخيرة وتسببت بموجات دخان كثيفة غطت مساحات واسعة. وفي بيان رسمي تابعته «المدى»، أوضحت مديرية زراعة ميسان أن «الحرائق ناجمة عن تحلل المواد العضوية المدفونة منذ سنوات، ما يؤدي إلى انبعاث غازات قابلة للاشتعال، خصوصاً في ظل درجات حرارة تتجاوز 65 درجة مئوية تحت أشعة الشمس المباشرة». وأكد الباحث البيئي أحمد صالح نعمة، خلال مقطع فيديوي ضمن لجنة تحري ميدانية، أن «الحرائق لم تكن ناتجة عن فعل فاعل، بل عن احتراق غير كامل للمواد العضوية، والنتيجة دخان كثيف يخرج من الأرض بفعل التراكمات الجافة والحرارة العالية».
ومع ذلك، لا يزال كثير من سكان المناطق المتضررة يعتقدون أن الحرائق مفتعلة، بينما تصر الجهات الرسمية على ربطها بالتغيرات الطبيعية والمناخية.
تداعيات عابرة للحدود
تجاوزت آثار الحرائق الحدود العراقية، ووصلت إلى مناطق إيرانية مجاورة، أبرزها إقليم خوزستان، ما دفع السلطات الإيرانية إلى إرسال طائرات دفاع مدني للمساهمة في عمليات الإطفاء. وذكر حيدر عدنان، رئيس منظمة أبناء الأهوار، لـ«المدى» أن «مساحة الحرائق بلغت نحو 16 ألف هكتار على الجانب الإيراني، فيما وصلت سحب الدخان إلى مركز محافظة ميسان، وظلت مشتعلة لمدة عشرة أيام متواصلة حتى تاريخ 26 تموز، وسط امتعاض الأهالي من التلوث الناتج عنها».
وفي سياق متصل، أوضح عضو مجلس محافظة ميسان قاسم عيسى في تصريحات إعلامية تابعتها «المدى» أن الحكومة المحلية بحثت مع الجانب الإيراني سبل السيطرة على الحرائق، لكن الأخير أبلغهم بعدم توفر المياه الكافية لديه، ما يعني أن مشكلة الجفاف «مشتركة» ومتفاقمة.










