حسن الجنابي
تواصل الأحداث العالمية تقلباتها على صفيح ساخن. أمريكياً، يستمر الرئيس ترامب بصب الزيت على النيران في أكثر من جبهة سياسية أو اقتصادية، داخلية أو خارجية، ثم يسرع بإطفاء ما يمكن اطفاؤه وليكشف وجهاً مغايراً، أو بالأحرى رغبةً في عقد صفقة مالية يعتقد انها مربحة للولايات المتحدة، مهما كان تأثير ذلك على استقرار الأسواق ووسائل التجارة المعتادة والمستقرة عموماً بين الدول. وهو لا يفرّق بذلك بين الأصدقاء ولا الخصوم.
لكنه من الواضح فإن ترامب يضمر في ذلك -أو يكشف لا فرق- حالةً من الاستعلاء والفردانية والهيمنة. ويضرب بالثوابت والأعراف الدستورية، عرض الحائط، كما يظهر في المواقف من المهاجرين أو الطلبة أو الضرائب أو تمويل القطاعات الحكومية المختلفة التعليمية والصحية وغيرها. بل أنه يتجاوز الأدوار التقليدية للمؤسسات الدستورية الأمريكية بما فيها الكونغرس، الذي يبدو متراجعاً في عهده عن طريق اللجوء لاستخدام "الأوامر التنفيذية" بصورة مفرطة كبديل، لبسط الهيمنة الفردية التي تناغم غروره المتضخم، وربما تغطي على اخفاقاته ومشكلاته الشخصية وسجله في المحاكم. وتراه يتخذ قرارات تفاجئ المقربين منه قبل الآخرين. فمن اعلان "الصداقة" مع بوتين و"بهذلة" زلينسكي، الى تحريك الغواصات النووية الأمريكية بالقرب من روسيا في استفزاز واضح لحالة التوجه نحو التفاوض بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب.
تشير بعض التقارير الى أن ظلال قضية المجرم جيفري أبستاين ربما تؤرق ترامب، لكن الأجهزة المعنية تعمل بكثافة لحذف اسمه من القائمة المشينة، التي ينتظر كشفها للرأي العام عن عملاء المجرم ابستاين وجرائمهم الجنسية. ومن يدقق في تراجعه المستمر عن مواقف معلنة، بما فيها بشأن أوكرانيا والشرق الأوسط وإيران، قد يجد ربطاً بين حذف اسمه من قائمة أبستاين والعودة الى سياسات التصعيد مع روسيا وإيران. فقد اعتاد الرؤساء الأمريكان، ومنهم كلينتون، على قصف مواقع وبلدان (كما جرى في العراق) عندما تتدهور شعبيتهم في أوساط المجتمع. فالحرب والظهور بمظهر الزعيم المنتصر يزيد من شعبيتهم.
هذا الى جانب سلسلة الانسحابات التي أمر بها من المنظمات والوكالات الدولية لإضعافها. ويبدو لي بأنه لولا وجود المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك، فإن ترامب مستعد للانسحاب من هيئة الأمم المتحدة والتخلص من مجلس الأمن الدولي، أسوةً بأي منتدى يفرض على الولايات المتحدة التزامات ما. ويظهر كذلك التناقض الصارخ بين رغبته المريضة بالحصول على جائزة نوبل، نتيجة لإنجازات متخيلة ودعم من مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الذي وجد في ترامب شخصاً يسهل مداعبة هواجسه للحصول على المزيد من الدعم.
على المستوى الأوروبي، تعرضت ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية وحالة الاسترخاء والاعتماد على الفاعل الأمريكي، دفاعياً واقتصادياً، الى هزة مفاجئة، أظهرت العجز الأوربي والارباك في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية وهشاشة الدعم الأوربي لحليفها الضعيف فولوديمير زلينسكي.
ويبدو ان القوى الأوروبية الرئيسية بدأت بتجميع، أو تنسيق، مواقفها باستقلالية نسبية بعد الفترة المنصرمة الحرجة من حكم دونالد ترامب وسلوكه وتصريحاته المتناقضة بشأن أوكرانيا أو حلف الناتو. وتجسد التنسيق الأوربي في محاولات زيادة الدعم المالي للطرف الأوكراني والاحتفاظ بفكرة العدو الدائم والخطر الداهم الذي تمثله روسيا على أوروبا.
ظهر "التمرد" الأوربي في شكل آخر، أكثر نفعاً باعتقادي، وهو التحول الجاري عل مستوى القوى الرئيسية في مجموعة السبعة الكبرى من القضية الفلسطينية. فقد أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون رسمياً إرادة بلاده في الاعتراف بدولة فلسطينية. تبعه رئيس وزراء كندا الذي تعهد بالاعتراف بدولة فلسطينية في أيلول المقبل اثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفعل الأمر نفسه رئيس الحكومة البريطانية، وهي الدولة المسؤولة بدءاً عن تأسيس إسرائيل على الأرض الفلسطينية، لكنه ربط اعترافه بشروط أخرى لا تقلل من القيمة الرمزية والدبلوماسية لهذه الخطوة الجريئة في إعادة توجيه البوصلة البريطانية في اتجاه يؤيده أكثرية البريطانيين، فضلاً عن معالجة الإجحاف التاريخي الذي الحقته بريطانيا بدولة كانت تحت الانتداب، وذلك بموافقتها على "إقامة وطن قومي لليهود" عل أراضي شعب آخر من خلال وعد وزير خارجيتها حينها آرثر بلفور.
ان الدينامية الجارية حول القضية الفلسطيني غير مسبوقة. فإلى جانب الدول المذكورة آنفاً، أعلنت دول أوربية عديدة اعترافها بدولة فلسطينية، مثل اسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا وغيرها، هذا فضلاً عن تأييد واسع من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
ومع كل هذا الحراك الدولي، فإن الرئيس ترامب لا يرى فيه سوى عبث، في محاولة لإمساك عصا الحلول السحرية بيده غير الأمينة ولا الحريصة على الأمن الدولي. ولكن واقع الأمر يشير الى عزلة أمريكية بصحبة حليفتها العنصرية عن الاتجاهات العامة للسياسة الدولية. وفي ذلك فلن يشذ عن سابقيه للخروج من المأزق عن طريق الحرب او تنفيذ ضربات عسكرية في المناطق الملتهبة من العالم، مثل إيران أو أوكرانيا، وربما سيدرج كوريا الشمالية معها.
ستشهد الأسابيع المقبلة التحاق دول أوربية أخرى، بما فيها ألمانيا، بركب العدالة الدولية التي دفع الفلسطينيون ثمناً باهضاً نتيجة لتزييفها على أيدي القوى الغربية التي شاءت الظروف أن تخضع لإرادات الصهيونية العالمية.










