فارس كمال نظمي
ما يميز أي صحافة تنويرية متجذرة إنها تناضل بمشروعها الفكري ضد كل أنواع الظلام المحيط بها مهما تبدلت هيمنته الأيديولوجية وعناوينه السياسية. وهذا ما فعلته وما تفعله صحيفة "المدى" العراقية منذ أكثر من عقدين، حينما صدرت للمرة الأولى في بغداد، لتبدأ رسالتها الثقافية النقدية لمعالجة آثار الدكتاتورية التي خلّفها النظام الفاشي قبل سقوطه في 2003 على يد الاحتلال الأمريكي. ومع تلاحق الأحداث، وبروز القمع الديني والطائفية السياسية حد الاقتتال الأهلي، اضطلعت "المدى" بمهمة جديدة هي تعرية الاستبداد الجديد، والكشف اليومي المجهري عن أدق مفاصله ووظائفه ومآلاته الهدمية. ولذلك يحق لهذه الصحيفة أن تحتفل اليوم بسطوعِ وديمومة رسالتها المزدوجة: أي تفكيك آثار وجرائم الماضي الشمولية، وتعرية ما أعقبها حتى اليوم من عنف وفساد وانحطاط ورثاثة.
ولعل ما يفسر هذه القدرة الاستثنائية المزدوجة التي تميزت بها "المدى" طوال هذه الزمن السياسي العسير، إن إدارتها عملت منذ البداية لتكون ملاذاً لعدد لا يحصى من الأقلام النقدية والتقدمية من مختلف المشارب الفكرية المتباينة. وهنا يكمن سر ديمومتها وتفردها، إذ تصرفت بوصفها قطباً جاذباً لكل ما هو عقلاني على مستوى الآراء والأفكار والتحقيقات والحوارات وصياغة الأخبار، في بلد ظل مفتقراً لهذه القطبية الصحفية لأكثر من نصف قرن، فيما اختفت أو تراجعت عشرات الصحف الأخرى التي كان من المؤمل أن تؤدي دوراً مماثلاً.
أما التحدي الأساسي الذي تواجهه "المدى" اليوم -كبقية المطبوعات الصحفية- هو تراجع تأثير الصحيفة اليومية الورقية (وحتى الإلكترونية) أمام طوفان وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تؤدي دوراً "صحفياً" بديلاً في قدرتها على الانتشار والتأثير والوصول إلى عقول جمهور واسع دونما رصانة فكرية أو أمانة معلوماتية. إلا إن هذا التحدي يمكن التعامل معه واحتواءه -نسبياً- عبر أسلوبين. يتمثل الأسلوب الأول بتطوير المهارات الرقمية للـ"المدى" عبر ابتكار تقنيات خوارزمية جديدة تسمح بإيصال موادها الإخبارية والفكرية لقطاع واسع من الجمهور من خلال تجزئة هذه المواد والترويج لها بطريقة مفردة مشوقة، إلى جانب الترويج للصحيفة ككل. ويتحدد الأسلوب الثاني باستمرار "المدى" بنهجها في أن تبقى قطباً جاذباً واستثنائياً لكل ما هو عقلاني، في مواجهة مفتوحة وجريئة وغير مهادنة مع تفاهة وفساد المجال السياسي العراقي الحالي وما أفرزه من عدمية سياسية وبؤس ثقافي واغتراب اجتماعي لدى فئات واسعة من الجمهور، بما فيهم نخب باتت يائسة أو منكفئة أو اندفعت لتتماهى بالمشروع الأيديولوجي للسلطة.
إن هذا الدور الذي أفترضُه لـ"المدى" قد يبدو مبالغاً به أو يتعدى حدود صحيفة يومية. إلا إن وضعاً استثنائياً كالوضع العراقي الحالي تغيب فيه قطبية ثقافية قادرة على مناهضة حملات التجهيل والتتفيه والتيئيس والتسقيط والشيطنة التي تمارسها يومياً ماكينة الهيمنة الإسلاموية بسياسييها ورجال دينها ومدونيها و"مثقفيها"، يمنح صحيفة "المدى" دوراً نوعياً فريداً -مهما كان محدوداً أو جزئياً- في تعبئة الهيمنة المضادة، وفي تحفيز سيكولوجيا الأمل وقيم الوطنية والتسامح، وفي التذكير الثابت والمثابر إن الوعي الزائف الذي يغلف الحياة العراقية اليوم ليس خياراً نابتاً من ضرورات أملتها الثقافة المجتمعية، بل فرضاً أيديولوجياً أملاه احتكار الأقلية الفاسدة للسلطة والمال والإعلام والسلاح، وهو فرضٌ مؤقت قابل للنقض في أي وقت آني أو زمن اجتماعي قادم.










