ميسان / مهدي الساعدي
تبدو شوارع مدينة العمارة شبه خالية من المارة والمركبات مع حلول الظهيرة، رغم أن هذا التوقيت عادةً ما يشهد ذروة حركة المرور بسبب انتهاء الدوام الرسمي. لكن يوم الخميس الماضي كان عطلة محلية أعلنتها حكومة ميسان بسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير معتادة، لتتوقف معظم الأنشطة باستثناء بعض المهن التي لا تتوقف حتى في أشدّ الظروف، ومنها مهنة الخَباز. وسط هذا الهدوء، يخترق صوت طقطقة التنور وضجيج النار صمت الأحياء الشعبية. هناك، يواصل الخباز حميد عمله في مخبزه البسيط، متحديًا أجواءً لاهبة، حيث تتجاوز الحرارة 50 درجة مئوية، ويقف لساعات أمام تنوره الطيني، يعجن ويلصق الأرغفة بيديه ويقلبها بأداة «الماشة» دون توقف.
يقول حميد في حديثه لـ«المدى» إن مهنة الخبازة من أكثر المهن إرهاقًا في الصيف، بسبب التعرض المباشر للنار والحرارة العالية التي تؤدي إلى أمراض جلدية وباطنية. ويضيف: «الطبيب نصحني بترك المهنة، لكن لا خيار أمامي، فهي مصدر رزقي الوحيد وأنا أعيل عائلة».
مهنة تواجه النار بلا ضمانات
رغم أن بعض الأفران الحديثة تستخدم وسائل حرارة غير مباشرة مثل الكهرباء أو الحجر الصناعي، تبقى المخابز التي تعتمد التنور العراقي التقليدي الأكثر تعرضًا للحرارة. يقول أبو أحمد، صاحب فرن صمون، إن الخباز في التنور الطيني يقف فعليًا داخل دائرة من اللهب. ويتابع: «العاملون في أفران الصمون الكهربائية أو الحجرية أفضل حالًا، أما من يعمل بالتنور التقليدي فهو يواجه النار مباشرة».
يقوم حميد بجميع مهام المخبز بمفرده: يعجن، يُحضّر الكرات (الشناك)، يخبز، ويخرج الأرغفة من التنور. السبب كما يوضح يعود إلى قلة الإقبال وتعدد المخابز، إضافة إلى انتشار التنانير المنزلية في الأحياء الشعبية. وتُسلّط منظمات محلية الضوء على المخاطر الصحية للعاملين في هذه المهنة، خاصة مع ضعف الأجور. يقول الناشط الإنساني أنور صباح لـ«المدى» إن أجور بعض العمال لا تتجاوز 25 ألف دينار يوميًا، وهو مبلغ لا يكفي لمراجعة طبيب، فكيف إذا تعرض العامل لإصابة حرارية أو مرض مزمن؟ ويضيف: «معظم العاملين في هذا القطاع من الشباب واليافعين الذين يستغلون العطلة الصيفية، ويجب على الجهات المعنية مراقبة الأفران وتطبيق شروط السلامة».
دعوات لحماية العمال
رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق، ستار الدنبوس، قال في تصريح نقلته وسائل إعلام وتابعته «المدى» إنه لا توجد شكاوى رسمية من العمال في هذا القطاع، لكن النقابات تتابع أوضاعهم وتوجّه أصحاب الأفران لاتخاذ تدابير السلامة. لكن الواقع الميداني يعكس صورة مختلفة. فحميد، وغيره من عمال المخابز، يعانون من الطفح الجلدي، التهابات الجهاز التنفسي، والدوار المستمر بسبب التعرق الشديد وفقدان السوائل. «أستخدم المراهم كل يوم، وأعود صباحًا للعمل من جديد، لأنني مضطر»، يقول حميد. ولا تقتصر هذه المعاناة على عمال الأفران فقط، بل تمتد إلى قطاعات أخرى كمعامل الطابوق، المطاعم الشعبية، شواء السمك، وعمال البناء الذين يعملون تحت أشعة الشمس المباشرة دون حماية أو ضمانات صحية.
وتشير تقارير صحفية تابعتها «المدى» إلى أن القوانين العراقية تُلزم أصحاب العمل بتوفير شروط السلامة، لكنها تبقى حبرًا على ورق، دون تطبيق فعلي في أغلب مؤسسات القطاع الخاص، ما يضع العمال في مواجهة النار دون حماية تُذكر.










