د. نادية هناوي
(فعلُ أيُّ شيءٍ) جملة تُوجز معنى السرد غير الطبيعي، وتختصر فحوى علميته، وما يدرسه هذا العلم من مسائل، صار بسببها يشقُّ طريقه بثقة في الآونة الأخيرة، متقدما ومتفوقا على سائر علوم السرد ما بعد الكلاسيكية. نظرا لما أتى به منظروه من كشوفات، تؤكد حيوية هذا العلم، وأن له إمكانياته في تطوير النظرية السردية، وابتداع مفاهيم واتجاهات جديدة، تشجِّع على المضي في دراسة هذا النوع من السرد الذي فيه الأديب يصنع ما يشاء من دون ارتهان بمحتمل أدبي أو محتَّم منطقي.
ولأن هذا الصنع المشائي- إن صح التعبير- يُوهم بالعجيب وخوارقه كما يُوحي بالقرب من الفنتازيا وغرائبها، يتوجس المنظرون من مسمى "غير الطبيعي" ويحاولون الارتفاع به ليكون مصطلحًا، فيه يكون التدليل كافيا على فحوى فعلٍ، هو في الدرجة القصوى من الاستحالة واللامعقولية، وبالشكل الذي يعيدنا إلى فكر البشر الطفولي حين صنع الخرافات وأنتج الأساطير.
إن هذا التوجس من دلالة" غير الطبيعي" كنا قد أكدناه أيضا في أبحاثنا في علم السرد غير الطبيعي. وارتأينا حلًا لهذا الإشكال، إبدال "غير الطبيعي" بـ" غير الواقعي" بكتابنا(السرد غير الواقعي)2023 وفيه ثبتّنا مواضع أو مسوغات هذا الإبدال كما بيّنا أنَّ هذا التوصيف لا يتعارض مع تسمية العلم بأنه غير طبيعي. وإذا كانت العلمية أمرًا يختص به أناس يعرفون الفحوى والمعطى، وما من إشكالية لديهم في الأسماء والتوصيفات، فإن عامة الدارسين أو القراء ممن ليس لديهم باع ولا اختصاص في هذا المجال، بحاجة إلى تعريف جامعٍ مانعٍ، يجعلُ المسمى دالا، ويرتفع به من كونه مفهوما إلى أن يكون مصطلحًا.
وما من شك في أن أرسطو نصَّ على أن المحاكاة تجري في إطار ما هو محتمل ويمكن أيضا أن تجري في إطار ما هو مستحيل الوقوع، بيد أن تمثيلات أرسطو التي منها انطلق في وضع تصوراته الفكرية حول فن الشعر، كانت بالأساس مأخوذة من شعر هوميروس الذي يمثل مرحلة متأخرة بالنسبة لتلك المرحلة التي فيها عُرفت الخرافات والأساطير. ومن غير الممكن أن يكون قانون الاحتمال الأرسطي حيث السبب يؤدي إلى النتيجة جاريا على أفعال التخييل في الخرافات والأساطير.
وعلى الرغم من ذلك، فإن نظرية المحاكاة بقيت هي المفسرة لفاعلية الخيال الادبي أيا كان شعريا أو سرديا. وساعد في ذلك أن المخيلة البشرية صارت ترتكن إلى المنطق في التعامل مع أمور الحياة المختلفة خاصة بعد الذي حققه العلم الوضعي من تقدم كبير، تأثر به التخييل الادبي الذي صار يحلق في عوالم المحتمل والمستحيل.
ويبقى الواقع، في كل هذه الأحوال، هو الرهان فتارة يكون سائرا في ركب المنطق والعلم على وفق قوانين الواقع الموضوعي، وتارة اخرى يخرج عن هذه القوانين. ما يجعل المفكرين في حالة مداومة على وضع تصورات فلسفية للزمان والوجود والتاريخ والذاكرة، يحاولون من خلالها تفسير ماهية الواقع والواقعي.
وما قيام علم السرد غير الطبيعي إلا صورة من صور هذه الفلسفة المخصوصة بعلاقة السرد بالواقع حيث السرد لا يُعيد تصوير الواقع كما تفعل السرديات الواقعية بأنواعها السحرية والعجائبية والفنتازية والايهامية والمتخيلات التاريخية، بل السرد يصنع واقعا آخر يوازي الواقع المعيش وينقلب عليه في آن واحد.
ويجسد هذه الفاعلية، قول هوراس:(للشعراء والرسامين الحق نفسه في الجرأة على فعل أي شيء) وبه يُفتتح كتاب(السرديات غير الطبيعية- علم السرد غير الطبيعي)2011، ولجرأة الشاعر والرسام المعنى نفسه الذي تدل عليه جرأة الفارس البطل.
وما بين شجاعة الشاعر والفارس تكون شجاعة الناقد في إثارة مسائل لم تكن النظرية الأدبية قد أعطتها اهتماما لا في تحليلاتها ولا في تجليات مفاهيمها. والكتاب عبارة عن عمل بحثي جماعي، فيه للجرأة بعد معرفي يشرعن المخرجات البحثية. وهذا ما يفتقر إليه العمل النقدي الفردي، إذ قد توسم جرأة الباحث بسمات سلبية غير مرغوبة مثل الجسارة، التهور، الاندفاع، التسرع.
أن اجتماع الجرأة مع استعمال طريقة الفريق البحثي، ساعدَ منظري السرد غير الطبيعي في أن يثبتوا حضورا واضحا في تطوير النظرية الأدبية بعد أن أنزوت المدرسة الفرنسية أمام أعمال الفرق البحثية الانجلو امريكية متعددة التخصصات التي أتت بكشوفات مهمة.
ومما يؤكده محررا هذا الكتاب جان البر وروديجر هاينز أن دراسة السرديات غير الطبيعية وتطويرها هي استراتيجية أو(برنامج بحثي جديد ومثير في مجال النظرية السردية. وأن هذا القرن وعلى وجه الخصوص العقدين الأخيرين منه شهدا إنتاج عددٍ من التحليلات لما هو غير طبيعي بتجلياته المختلفة كلها.) وهما بهذا القول إنما يمهدان الطريق لما قام به فريقهما البحثي من دراسات وأبحاث موضوعها "السرديات غير الطبيعية وعلم السرد غير الطبيعي". وتوزعت بين بابين: الأول يقدم بعض الأدوات التحليلية الجديدة ويناقش من خلالها إمكانية تطوير هذا العلم بالاستناد إلى روايات وقصص قصيرة ومسرحيات غير طبيعية. والباب الثاني يبحث في مخرجات ما هو متحصل من أبحاث ودراسات الباب الأول، كي يقوم بتطبيقها على سرديات القصص المصورة والأفلام السينمائية والحكايات الشفاهية.
واللافت للنظر في مقدمة هذا الكتاب هو مسعى البر وهاينز نحو إعادة النظر في مصطلح "غير الطبيعي" بسبب (ما له من دلالات سلبية نوعًا ما.) ويضربان مثلا على هذه الدلالات بالعنف والانحراف والشذوذ في نعت أنواع معينة من السلوكيات او التوجهات. والأساس في اتخاذهم مسمى "غير الطبيعي" هو أن له دلالة إيجابية في الأقل(عند المشتغلين في إطار هذا المشروع. وبشكل أكثر تحديدًا، علماء السرديات غير الطبيعيين الذين يجدون أن ما هو غير طبيعي موضوع دراسي رائع، ويجادلون بأنه يمكن للمرء أن يتعلم شيئًا من خلال التعامل معه.)
إن الهدف من وراء النهج النظري في اعتماد مسمى(غير الطبيعي) هو الاقتراب من خصوصيته وتصويره مفاهيميًا، بدلاً من الاكتفاء بوصفه أو تجسيد متعلقاته بأنواع مختلفة من النصوص السردية التي هي غير معقولة وتنحرف عن معايير المحاكاة الأرسطية المعهودة في معظم النماذج السردية.
والسؤال الذي يطرحه البر وهاينز هو: كيف يمكن وضع تعريف مناسب لمصطلح "غير الطبيعي"؟ ويقترحان ثلاثة تعريفات، واحد منها واسع، واثنان ضيقان. فأما التعريف الواسع فيتمثل في المستوى الأساس الذي فيه يهتم علماء السرديات غير الطبيعيين بالسرد ذي التأثير الغريب او اللامألوف أي التجريبي والمتطرف والمتجاوزة وغير التقليدي او غير المتوافق. ويرتبط هذا التعريف ارتباطًا وثيقًا بـ(مفهوم الاغتراب notion of estrangement) لفيكتور شكلوفسكي حيث الفن هو ما يجعل الأشياء المألوفة غريبة.
وهذا ما يبدو بالنسبة إلينا تعريفا غير جامع، ولا يصلح أن يُتخذ مصطلحا لأن السرديات الفنتازية والعجائبية هي أيضا تبحث عن اللامألوف، وفيها الواقعي محتمل الحصول وليس مستحيلا او لا واقعيا. ومن ثم يتضاد مع القاعدة التي ينطلق منها علم السرد غير الطبيعي وهي اللامحاكاة أو ضد المحاكاة.
وأما التعريفان الضيقان للسرد غير الطبيعي، فأولهما يعتمده براين ريتشاردسون وهنريك سكوف نيلسون ومفاده أن السرديات غير الطبيعية نصوص مضادة للمحاكاة(anti-mimetic) تنتهك اتفاقيات السرديات الطبيعية وحدود واقعياتها الراسخة، أي أنه يتجاوز العقد المحاكاتي الذي يحكم مواقف الكلام الفعلية في متخيلات سردية تعود إلى عصور غابرة. كأن يكون السارد حصانا بدلا من أن يكون إنسانا. وما يفعله السرد غير الطبيعي أنه يُوهم بإنتاج نصوص تشابه الحياة الواقعية.
التعريف الضيق الثاني هو لجان ألبر، وفيه يرى أن مصطلح "غير الطبيعي" يعني (السيناريوهات والأحداث المستحيلة جسديًا أي المستحيلة بموجب القوانين المعروفة التي تحكم العالم المادي، بالإضافة إلى المستحيلة منطقيًا، أي المستحيلة بموجب مبادئ المنطق التجريدية)
وبرأينا فإن تعريف جان البر محدود في تدليله على صنع الاستحالات والتلفيقات مقايسةً بتعريف ريشاردسون ونيلسون الذي هو أكثر سعة من الناحية الدلالية، وأبعد مدى من الناحية الفنية في تصوير ماهية "اللاطبيعية". وهذا ما يجعله صالحا لان يكون مصطلحا قارا فيه تجتمع الكلية بالشمولية.
إن استقرار المصطلح بإزاء كم من المفاهيم النظرية، هو أمر مهم كي يكون علم السرد غير الطبيعي قائما بذاته وفارضا حضوره أمام علوم السرد ما بعد الكلاسيكية الأخرى. وهذا هو الحاصل بالفعل. وبذلك تميزت تطويراته وإضافاته إلى النظرية السردية بوجه عام، والى المحاكاة الأرسطية وقانون الوحدات الثلاث: الفعل والزمان والمكان بوجه خاص.
السرديات غير الطبيعية: اختلافات مفاهيمية

نشر في: 6 أغسطس, 2025: 12:01 ص









