جورج منصور
اليوم، حيث توقد شمعتها ال 23 تقف المدى، الصحيفة اليومية الجادة والهادفة، شامخة في ذاكرة الصحافة الوطنية. فلم تكن المدى مجرد صحيفة تُطبع وتُنشر، بل كانت منبراً للكلمة الصادقة، ومدرسة حقيقية خرجَّت أجيالاً من الصحفيين والمثقفين، ورفعت منسوب الوعي في زمن كثُرت فيه الضبابية وغاب فيه صوت الحقيقة.
منذ عددها الأول، قبل 22 عاماً، التزمت المدى بخط مهني رصين لا يعرف المهادنة ولا المجاملة على حساب المصلحة العامة، ولم تساوم في كشف الحقائق، مهما كانت التبعات. حفرت في الصخر، وكشفت مواطن الفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع، وسلطت الضوء على الملفات المسكوت عنها، فكانت شوكة في خاصرة الفاسدين، وملاذاً للباحثين عن الحقيقة.
المدى علمَّت قراءها أن الصحافة ليست ترفاً ولا أداة تزيين السلطة، بل ضمير حيَّ، ومراقب لا ينام، ومحامٍ للدستور والمصلحة العامة. كما الهمت كتَّابها أن الانحياز لا يكون إلاَّ للناس، وأن المهنية تبدأ من الميدان، وتنتهي عند المصداقية.
في المدى اتقن رئيس التحرير الأستاذ فخري كريم مهنته، فتحولت الصحيفة من مجرد أوراق تُطبع، إلى منبر حي يثير العقول ويوقظ الضمائر. إذ لم يكن قلب الصحيفة النابض فحسب، بل اصبح عينها الساهرة على صدق الكلمة، واليد التي تزن كل حرف بميزان المصداقية والمصلحة العامة.
كان يدرك أن المدى ليست دكاناً لبيع العناوين المثيرة، بل مؤسسة فكرية لها رسالة. وحين كان يجلس إلى مكتبه، لا يغلق الباب على ذاته، بل يفتحه أمام كل صحفي يريد أن يناقش أو يعترض أو يقترح. كان المدافع عن المهنة، والضمانة الأولى أن تبقى المدى حيّة، ذات تاثير.. لا مجرد صفحة تُطوى وتُنسى.
تحية للمدى التي لم تنحن، ولم تساوم، ولم تتورط في وهم الحياد حين يكون الموقف الأخلاقي أوضح من أن يُحتمل. في زمن اللايقين، كانت هي اليقين، وفي ذكرى ولادتها، نعيد التأكيد: ما أحوجنا إلى صحافة تشبهها، تقول ما لا يُقال، وتكتب ما يجب أن يُكتب، دون خوف أو مساومة.










